بندر الفيلي.. من السجن إلى الإبادة الجماعية
الاشراق | متابعة.
تعد رواية "بندر فيلي" من الروايات المهمة التي تمثل مرآة تعكس معاناة الأكراد والظلم الذي تعرضوا له في زمن النظام المباد، حيث يروي القاص في هذه الرواية، قصة ظلمٍ وجورٍ دامٍ مارسه النظامُ البعثي ضد الأكراد الفيليين، كاشفًا الستار عن مأساة إنسانية شديدة الألم، تكشف جانباً من أبشع الجرائم التي ارتكبها الإنسان في وجه أخيه الإنسان.

بختيار علي - أرشيف
تدور أحداث الرواية حول شابٍ يُدعى بندر فيلي، وهو كوردي فيلي عراقي، وُلد في سجنٍ من رحم والدته، ليبدأ رحلته في عالم مظلم يعكس واقعاً مريراً عاشه شعب بأكمله، وتمتد الرواية على مدار ثلاثة وعشرين عاماً من حياة بندر داخل زنزانتين مختلفتين، تشهدان على جرائم القتل والإعدام التي تنفذ أمام عينيه، في مشاهد مروعة قد يصعب إيجاد مثيل لها حتى في صفحات تاريخ المحرقة.
بندر، الصبي الذي لم يتجاوز السادسة، يتعرض لصدمات مرعبة وهو يشاهد موت رفاقه بلا رحمة، محاطًا برعبٍ متواصل يُثقل روحه ويشكل مستقبله، شخصية بندر فيلي بُنيت بحرفية عالية، وتحمل أوجه تشابه مع شخصيات أخرى في الأدب الكوردي، مثل "جلادت كفتر" في رواية مدينة الموسيقى البيضاء، و"جمشيد" في رواية عمي جمشيد خان، مما يعكس البراعة السردية للكاتب، فكل مشهد في الرواية، التي تبلغ 557 صفحة، يسلط الضوء على حياة هذا الشاب الكوردي الفيلي، يدور محوريًا الحكاية حول تجربته الصعبة، بأسلوب سردي يعكس تأثير الروائي الروسي تولستوي، من خلال التشبيهات الربطية الدقيقة التي تضفي عمقًا على الأحداث.
وتتسم الرواية بالسرد الصامت للراوي، الذي يبدو متجذرًا في تجربة شخصية مباشرة للكاتب بختيار علي مع سجون النظام البعثي، إذ وصف الحياة خلف القضبان بدقة مؤثرة وأسلوب تصويري يُشبه الفيلم السينمائي في قوته.
وتُعد هذه الرواية إضافة مهمة لفن الرواية، خاصة في تقديمها مادة تعليمية عن كيفية توظيف الفن الروائي للتعبير عن الواقع السياسي والاجتماعي، وتجسد الرواية بسجنها الضيق وغرف الحبس الانفرادي، ورمز "جسر الجمهورية" في بغداد، حكاية غياب الجمهورية وصراع الدكتاتورية مع قيم الحرية، مترافقة مع رموز رمزية مثل حلم بندر بسماع خرير مياه النهر، التي تضيف بعدًا شعريًا للسرد، وتناول الرواية كذلك موضوعات اجتماعية مثل التنشئة والاغتراب الذاتي، حيث يعيش بندر حالة من الجهل القسري في السجن، ويحرم من التعليم، مما يجعله محاصرًا في سجن داخلي حتى خارج أسوار السجن الفعلي. على الرغم من سواد الرواية وغموض أجوائها، فإنها تحافظ على جاذبية عميقة تجعل القارئ مشدودًا، ويُحمل في طياتها نقدًا لاذعًا للعلاقات القبلية الفاسدة التي حكمت السجون، وتغلغل الفساد في شتى مناحي الحياة في عهد صدام حسين، مع تلميحات غير مباشرة للحرية.
تتوازى تجربة بندر فيلي في محاولته الأولى للهروب من السجن مع هجرة الأكراد نحو أوروبا، حيث الحرية ظاهريًا قد تكون قيدًا جديدًا، مليئًا بالإحباطات والمعاناة أما في المحاولة الثانية، فتترافق الحرية مع الحب، لكنه حب مظلم يخبو وسط أجواء من اليأس والخطر، فتغدو حياة بندر رمزًا لصراع الإنسان مع قسوته والقدر. وفي خاتمة الرواية، يطرح الكاتب سؤالًا مهمًا عن حدود عرض العنف والدموية في الأدب، وهل من حق الروائي أن يختار الصراحة المطلقة في تصوير مآسي شعبه، أم ينبغي أن يرعى خطوطًا معينة في التعبير؟