لكلّ من يقول: لا أحكي شعراً!

الاشراق | متابعة.

يكرر بعض الساسة والإعلاميين والعاملين في الحقل العام، وكأنهم يسطرون قانوناً جديداً للحقيقة، عبارات من قبيل: "أنا لا أحكي شعراً"، أو "كلامي هذا ليس بشعر"، ليوهموا مستمعيهم بأنهم أشخاص جادون، واقعيون، لا يطلقون الكلام جزافاً، ولا ينسجون القصص من وحي الخيال.

وكأنهم، بهذه العبارة وحدها، يضعون أنفسهم على ضفة الحقيقة الثابتة في مقابل ضفة اللغو الطريف أو الخفيف، لكن السؤال الذي يغيب عنهم، أو يتعامون عنه، هو: أي جهل هذا الذي يدفعهم إلى تحويل الشعر إلى نقيض للجد؟ وأي حقيقة تلك التي تخلو من الشعر روحاً وجوهراً؟

إن في هذا القول إنكاراً لأعظم ما منحته الحضارة للإنسان: اللغة التي تليق به. فالشعر ليس ترفاً، ولا هو كلام مُسجَّع للتملق أو التسلية. الشعر هو سجل الوجدان، ومعدن الهوية، ومخزن الذاكرة الجمعية. هو الوثيقة التي تحفظ للشعب أنفاسه الأولى وآهاته الأخيرة، انتصاراته وهزائمه، أحلامه وكوابيسه. 

صحيح أن في الشعر شيئاً من المبالغة والخيال، لكنه في الوقت عينه يسجّل أو يلتقط جوهر الوجود ومعنى الحياة؛ فهو لا يروي الأحداث فحسب، بل يغترف من أعماقها الدرس والحكمة. من "ملحمة جلجامش" إلى قصائد محمود درويش، كان الشعر هو الصوت الإنساني الأعمق الذي يخلد ما تهمله تواريخ الحكّام والساسة.

ألم يقرأ هؤلاء – ولو عن طريق المصادفة – أن التاريخ لم يحفظ لنا سيف الدولة الحمداني إلا لأنه كان سنداً للمتنبي، ولم يذكر كافور الإخشيدي إلا لكونه كان ظالمًا لأعظم شاعر عربي؟ لقد صار السياسي تابعاً في سجل المجد، لا متبوعاً، بفضل كلمة شاعر واحد، فالشاعر يخلد من الحجر ذكرى، ومن الطاغية مثلاً يضرب به، ومن اللحظة العابرة خلوداً.

ولو أن ساسة هذا الزمان يقرؤون الشعر ويحبونه، ويفقهون مغزاه وجدواه، لعلموا أن في تضاعيفه من ضروب الحكمة ما لم تدركه دساتيرهم، وفي أعماقه من بصائر النفس البشرية ما لم تصل إليه استبياناتهم. لتعلّموا من الشعر التواضعَ أمام جلال الحياة، والمعنى الحقيقي للحرية الذي لا تمنحه السلطة، والقيمة الجوهرية للإنسان، أي تلك التي تفوق سعره في سوق النخاسة المعولم، لكننا نعيش في عالم صار قادته مجرد رجال أعمال متوحشين، لا همّ لهم سوى المزيد من السلطة والمال، على حساب كل قيمة روحية أو فكرية؛ عالم يجف فيه الينبوع الإنساني، فتتحول السياسة إلى مجرد عملية ميكانيكية صماء، تطحن الكرامة وتهمش الجمال.

ألم يروا كيف تحتفي الأمم الواعية بشعرائها فتقيم لهم التماثيل في أرفع الميادين، وتنقش أقوالهم على جدران المؤسسات والمكتبات، وتطلق أسماءهم على الشوارع والجامعات؟ ألم يسمعوا عن الجوائز التي تمنح للشعراء لأنهم يمنحون الحياة معناها الجوهري والعميق، أو عن الأوسمة التي تُكرِّم من يصوغون الوعي والجمال؟ أليست بريطانيا تفتخر بشكسبير في كل محفل، وتجعل من بيته مزاراً ثقافياً؟ أليست أميركا اللاتينية ترفع بابلو نيرودا إلى مرتبة الأبطال؟ وأليست مصر تحفظ لمقعد أحمد شوقي (أمير الشعراء) في قلب عاصمتها حرمة ومهابة؟ وتلك إيران يكاد "حافظها" الشيرازي يوضع في مصاف الرسل والأنبياء؟

والأمر ليس أمرَ ذكرى وتاريخ فحسب، بل هو أمر وعي ووجود أيضاً، فالشعوب التي تحترم الشعر وتجلّ الشعراء هي الشعوب التي تعرف قيمة نفسها، والتي تدرك أن الاقتصاد والسياسة والعلوم لا تقوم إلا على روح ثقافية يكون الشعر نواتها الصلبة. أنظر إلى الأمم المتقدمة، تجد للفن والكلمة مكاناً في صناعة القرار، لأنهم يعلمون أن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، بل بالمعنى الذي يصنعه الشعر والأدب.

إن القائل: "أنا لا أحكي شعراً"، يظن أنه يؤكد جديته، لكنه في الحقيقة يعترف بفقره التعبيري، وعجزه عن الإمساك بجوهر الإنسان، ويعلن عن انتمائه إلى نسق من التفكير المجتزأ الذي يرى الحياة أرقاماً وجداول فقط. إنه لا يفهم أن أعمق الحقائق وأكثرها التصاقاً بالحياة تحتاج إلى لغة الشعر كي تقال: لغة المجاز والاستعارة والرمز التي تلمس المشاعر وتحرك الضمائر.

في النهاية، سيذهب أولئك السياسيون وخطبهم "الجافة" التي تفتقر إلى الروح إلى متاحف النسيان، فيما تظل القصائد تضيء دروب الوجود، لأن الشعر هو نسيج الضمير الإنساني، وهو البوصلة التي ترشدنا إلى الحقيقة الأعمق، حين تفشل كل خطط السياسة وموازين القوة. فالحياة من دون شعر حياة بلا ظل، بلا عمق، بلا روح. إنه القوة الهادئة التي تنتصر دائماً على ضجيج الزمن الفارغ. ولهذا، فإن من يرفض الشعر إنما يرفض جزءاً من إنسانيته، ويوقع على اعتراف بإفلاس روحه.

فليتعظ أولئك الذين يستخفون بالشعر وبالشعراء. القادة والزعماء تذكرهم كتب التاريخ، ولكن الشعر هو الذي يبقيهم، بعد موتهم، على قيد الحياة.

تدوينة تابعتها الاشراق للاعلامي زاهي وهبي.