قراءة في رواية..«معزوفة اليوم السابع»
الاشراق | متابعة.
ما أصيبت به تلك المدينة هو أكثر من وباء واحد. أول ما ألمّ بها امّحاء وجوه بشرها من المرايا، حتى لم يعد أحد يعرف نفسه. ثم هناك جماعة أبناء الطائر الأسود المتسلّطة على المدينة.
ولنزد إلى ذلك ميل أبنائها إلى الخلاف المؤدّي إلى سفك الدماء وإشهار التمايز بينهم، ذاك الذي يجعلهم معادين لبعضهم بعضا ومزدرين لأبناء المخيّم القريب. هي خطوط واضحة الرسم لمكان يمكن أن يكون لأي من مدننا التي خاضت، وما تزال، حروبا ضارية. لن يبذل قارئ الرواية جهدا فائقا حتى يماهي بين بلده، أو مدينته، ليجد ان الانطباق قد تحقّق مع ما يقرأ، مع العلم أن الكاتب طرح على زمن أحداثه غلافا أسطوريا، أو نبوئيا على الأقل، يبدأ من وثيقة كتبها الجد الأول للمدينة، عن مصيرها، أو مصائرها.
فيما نحن نقرأ، نحسب أننا في زمن سابق على الأزمنة التي عاشتها مدننا العربية، وإن كان المقيمون فيها يتراسلون أو يتواصلون بأجهزة المحمول، ويتنقّلون بسياراتهم التي نشاهد مثيلاتها في ما تنقله المسلسلات التلفزيونية. في مقابل ذلك نقرأ كيف يسعى بطل الرواية الغجري عامل النظافة، إلى تخليص المدينة من مِحَنها وكوارثها مطاردا الطائر الذي تتوسط بياضه بقعة زرقاء مضيئة. فقط إن أمكن له العثور على ذلك الطائر، يمكن له أن يهتدي إلى الناي الذي، من لحظة البدء بالعزف عليه، يتوقف النزاع في كل من الأحياء السبعة للمدينة.
وإلى إضفاء الطابع الأسطوري، أو إرجاع الأحداث إلى زمن يمزج الواقعي بالخيالي، توضع المدينة تحت وطأة وباء من مظاهره امتناع المرايا عن إظهار الوجوه التي تقف قبالتها. جميع أهل المدينة، أو أكثرهم، كانوا يقفون أمام مراياهم، فلا يجدون شيئا انعكس فيها. لم يكن هذا بسبب المرايا، بل هو راجع إلى الوجوه التي لم تعد قابلة للرؤية، ما يدفع بالكثيرين ممن أصابهم ذاك الوباء إلى الانتحار. الوباء هو فكرة الرواية، إذ هو يصيب الجميع غير مفرّق بين انتماءاتهم الطبقية والتكوينية. الوباء هو فكرة الرواية إذن، أو موضوعها، وإن نازعته أفكار وموضوعات أخرى. فإلى جانب الوباء حكت الرواية عن علاقة غرامية تجري بين بطلها الغجري، ابن المخيم (باختو) وفتاة من المدينة، لم تأبه بالتميز الطبقي والمجتمعي الذي يحول دون التقائهما. وإلى كل مظاهر اختلاط الأزمنة وجمع اختلافاتها في هيئة واحدة نقرأ كيف تتشكّل جماعة أبناء الطائر الأسود على غرار ما نعرف من اجتماع النافذين، سياسيين واقتصاديين وأمنيين، على تشكيل هيئة حاكمة تدير المدينة والمخيّم الملحق بها. فعلى اختلاف الأزمنة، افتراضيا أو فعليا، نرى أن طرق الحكم وآلياته هي ذاتها لا تتغير، كأنها تتبع تعاليم أزلية صيغت في زمن ما قبل تاريخي.
يفلح الروائي جلال برجس في وصف المدينة ومخيّمها، رغم تداخل الحقيقي والخرافي فيهما. لقد عرّفنا بهما، وقد جرت فيهما وقائع حياة غرامية عند اشتداد النزاع بين أنحائهما، إلى حد أنه جعلنا قريبين من معرفتها معرفة المعايشة. يدلّ هذا على مهارة وتمّكن عززتهما تلك القدرة على تزاوج الأزمنة المذكور عنه أعلاه، من دون أن يشعر القارئ بأنه في زمن حائر ومشوِّش، لكن، هل كان جلال برجس يصف عالمنا الراهن، مُدخلا أساليب مختلفة وأزمنة متفاوتة وسلوكات غير منسجمة إليه، ساعيا من ذلك إلى وصف تعريفنا بالعالم الذي نعيش فيه؟ ما يلفت إلى ذلك تعيينه، على الغلاف الخلفي للكتاب، السبب الذي دفعه إلى كتابة روايته. يقول إن ذلك يعود إلى أحد الصباحات الربيعية من عام 2012، وفيما كان ينتظر حافلة تقلّه إلى عمله، رأى ذلك الشاب الغجري، كنّاس المدينة، يراقص مكنسته في وسط الشارع. بهذا المشهد تبدأ الرواية، لتتدرّج بعد ذلك إلى وصول الشاب إلى أن يكون منقذ المدينة من كوارثها المتداخلة.
«معزوفة اليوم السابع» رواية ضخمة لم تكتف بذكر كل تلك الشخصيات الكثيرة وتداخل أدوارها، بل إنها تروي حكايات هؤلاء بتفاصيل كافية لأن تجعلهم جميعا أبطالا روائيين. وهو إلى ذلك، يتنقّل بهم بين ماضي كل منهم وحاضره، ليكون الواحد منهم مختلفا هنا عما كان عليه هناك. هي شخصيات وأسماء كثيرة إلى حدّ أننا قد نحتاج إلى أن نخصّص مكانا في الصفحة البيضاء الأخيرة من الكتاب لندوّن عليها كل تلك الأسماء، ليمكن لنا تذكّرها بعد الانتهاء من القراءة. أسماء كثيرة، وحكايات لهم كثيرة كنا نظن أن جلال برجس يقحمها إقحاما في عمله، لكنها لن تلبث أن تُستدخل في نسيج الرواية وبنائها.
*رواية» جلال جرجس «معزوفة اليوم السابع» صدرت عن «دار الشروق» في 317 صفحة – سنة 2025
تدوينة تابعتها الاشراق للكاتب حسن داوود.