"فورين أفيرز": أفضل ما يمكن أن تفعله أميركا في سوريا هو الخروج منها
الاشراق | متابعة.
مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تنشر مقالاً يناقش الوضع الراهن في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، مشيراً إلى التحديات التي تواجه الحكومة الجديدة بقيادة أحمد الشرع، وتداعيات التدخل الأميركي في سوريا. هذا بالإضافة إلى دور "قوات سوريا الديمقراطية" في محاربة تنظيم "داعش"، مقترحاً على الإدارة الأميركية التعاون مع الحكومة السورية الجديدة، والخروج من سوريا.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
سقط نظام الحكم في سوريا الذي استمرّ 6 عقود، وانتهت الحرب الأهلية بعد 13 عاماً من اندلاعها على نحو مفاجئ في آخر السنة الماضية، حين اجتاح عناصر جماعة "هيئة تحرير الشام" المسلّحة معظم مدن البلاد وسيطروا عليها بقيادة أحمد الشرع، الذي يقود حالياً الحكومة السورية المؤقّتة في الفترة الانتقالية. وما يزال من غير المؤكّد كيف سيوحّد الشرع بلداً متنوّعاً ومنقسماً، وما إذا كان سيكبح جماح العناصر المتشدّدة في "هيئة تحرير الشام"، أو إن كان سيحظى بدعم المكوّنات السورية المختلفة، إذا تحرّك في اتجاه أكثر اعتدالاً.
ومن بين المسائل المقلقة التي تواجه سوريا هي مستقبل الوجود والتدخّل الأميركي في البلاد منذ العام 2014، حيث دعمت واشنطن حكومة مستقلة بحكم الأمر الواقع في شمال شرق سوريا تتألّف بمعظمها وليس كلّياً، من فصائل كردية تحت تحالف باسم "قوّات سوريا الديمقراطية". وخلال الفوضى التي تسبّبت بها الحرب الأهلية في سوريا، سيطر هذا التحالف على المنطقة المحاذية على طول الحدود مع تركيا، وقاتلت على جبهتين بمواجهة القوّات الحكومية السورية وتركيا والميليشيات المدعومة من أنقرة، في وقت عملت القوات الأميركية بشكل وثيق مع "قوات سوريا الديمقراطية" في مطاردة مقاتلي "داعش" في معاقلهم الأخيرة.
وحتى اللحظة، هناك نحو 2000 جندي أميركي في سوريا والعراق، بالإضافة إلى المتعاقدين في نحو 12 نقطة تشغيل وقواعد صغيرة في شرق سوريا لدعم جهود حليفها الكردي للقضاء على الجماعات الإرهابية وردع الهجمات التركية.
ورغم الدعم الأميركي، ما يزال تنظيم "داعش" نشطاً في سوريا. ولكن، مع سقوط نظام الأسد، قد تختار الولايات المتحدة العمل مع شريك أكثر نفوذاً وفعالية في المعركة ضد بقايا التنظيم الإرهابي، مثل الحكومة السورية الجديدة في دمشق، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، لأنّ هذا من شأنه أن يعزّز الأمن الإقليمي، ويساعد على إنهاء القتال الدائر في شرق سوريا، ما يسمح للولايات المتحدة بتخفيض بذل مواردها في تلك البلاد، في عهد إدارة الرئيس دونالد ترامب الذي لطالما أعرب عن أسفه على التورّط الأميركي في الصراعات الخارجية، وخصوصاً في الشرق الأوسط.
الأداة الخاطئة
لا شكّ في أنّ الشراكة مع الحكومة الانتقالية الجديدة في دمشق من شأنها أن تسمح للولايات المتّحدة بمغادرة سوريا بشروطها الخاصة. في حين يرى العديد من المسؤولين والمحلّلين الأميركيين أنّ الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا شريك موثوق به لما تأمل واشنطن أن يشكّل "هزيمة دائمة" لتنظيم "داعش" في تلك المنطقة. لكنّ "قوّات سوريا الديمقراطية" فشلت حتّى الآن في القضاء الكامل على الجماعة الإرهابية. وبعد 6 سنوات من سيطرتها على آخر معقل لـ "داعش" في سوريا، لا يزال مقاتلو التنظيم ينشطون في وسط وشرق البلاد. بينما أثارت تصرّفات الميليشيا الكردية "وحدات حماية الشعب"، استياء المجتمعات العربية المحلية، التي تخضع لسيطرتها الصارمة.
كذلك، ارتكبت "قوّات سوريا الديمقراطية" عمليات قتل واعتقالات خارج نطاق القضاء بحقّ المدنيين العرب، الذين تعرّضوا للابتزاز حين كانوا يحاولون الحصول على معلومات عن أقاربهم المعتقلين أو تأمين إطلاق سراحهم. كما ضغطت على الشباب العرب لتجنيدهم في صفوفها، وحرّفت نظام التعليم ليتوافق مع أجندتها السياسية، وضمّت إلى صفوفها العديد من المقاتلين الكرد غير السوريين. وقد دفعت هذه التصرّفات بعض السكّان المحلّيين إلى أحضان "داعش".
كما أنّ "قوّات سوريا الديمقراطية" تعاني العداء المستمرّ بين تركيا و"وحدات حماية الشعب"، التي تشنّ هجمات عرضية ضدّ المواقع التركية في الأراضي السورية وعلى الحدود، ما يعزّز السردية التركية بأنّ الميليشيا ليست إلّا جماعة إرهابية. كذلك، يقوم الجيش التركي والميليشيات السورية التي يدعمها بهجمات عنيفة ضدّ "وحدات حماية الشعب" في شمال سوريا، ما يستنزف انتباه "قوّات سوريا الديمقراطية"ومواردها بعيداً عن قتال تنظيم "داعش"."
منذ نحو أسبوع، دعا زعيم حزب العمّال الكردستاني البارز عبد الله أوجلان إلى وقف إطلاق النار مع تركيا. وطلب من المقاتلين الموالين له إلقاء أسلحتهم والتوقف عن شن الهجمات. لكن "وحدات حماية الشعب" رفضت دعوة أوجلان، بينما تركيا لا ترغب في تغيير سياستها والتسامح مع وجود منطقة كردية مستقلة في سوريا تلعب فيها الميليشيات الكردية أي دور ذي أهمّية.
ولقد حاولت الإدارات الأميركية منذ إدارة الرئيس باراك أوباما دعم ميليشيا "وحدات حماية الشعب" في القتال ضدّ "داعش"، واحتواء غضب أنقرة ورغبتها في توجيه ضربات لقادة "وحدات حماية الشعب" ومقاتليها وحلفائها والأماكن التي تعشعش فيها. ومع ذلك، رفضت الميليشيا المذكورة أيّ تسوية مع تركيا أو الحكومة الجديدة في دمشق.
وللحفاظ على الشراكة مع "قوّات سوريا الديمقراطية"، سوف تحتاج إدارة ترامب إلى دعم الجماعات الكردية في معاركها المستقبلية مع تركيا. وكانت إدارة بايدن قد ضاعفت بين عامي 2023 و2024، بهدوء عدد القوات الأميركية في شرق سوريا إلى نحو 2000، حتّى تتمكّن من تمديد دوريّاتها غرباً على طول الحدود التركية من ضمنها مدن مهمة، مثل كوباني. الواقع أنّ هذه القوّات لا تقع في مناطق نشاط تنظيم "داعش" بل تواجه ضغوطاً تركية. وفي آخر السنة الماضية، ومع إطاحة المتمرّدين النظام في سوريا، هاجمت الميليشيات المتحالفة مع تركيا والطائرات التركية من دون طيّار مواقع كردية بالقرب من كوباني بمساعدة 2000 مقاتل.
ومع نشر 1000 جندي أميركي بالفعل، لن يحتاج ترامب إلى نشر المزيد من الجنود الأميركيين ليكونوا بمنزلة صدّ يمنع الغزو البري التركي، لكنّه سيحتاج إلى أن يدعم الكرد بمزيد من التمويل، لأنّ "قوّات سوريا الديمقراطية" تعتمد على واشنطن لدفع الرواتب، وستصبح هذه الحاجة أكثر إلحاحاً الآن بعد أن أصبحت تركيا أكثر حرّية في التركيز على "وحدات حماية الشعب"، خاصة بعد سقوط نظام الأسد خصمها في دمشق، ستوجّه أنقرة اهتمامها أكثر إلى الإدارة الذاتية والميليشيا الكردية على حدودها الجنوبية.
وفي هذا المستنقع من الأعمال العدائية الكردية التركية، من السهل نسيان السبب الذي دفع الولايات المتحدة إلى التدخّل في هذا الجزء من سوريا في المقام الأوّل، والذي كان عنوانه هزيمة تنظيم "داعش". ولم يكن من بين الأهداف الأميركية قطّ نشر قوات في شرق سوريا للدفاع عن جيب كردي سوري ناشئ تقوده ميليشيا كانت غامضة في السابق. ومن شأن تبنّي هذا الهدف الآن أن يمثّل توسّعاً كبيراً في المهمة. وبسبب هويتها وطريقة عملها، أثارت "قوّات سوريا الديمقراطية" حفيظة المجتمعات المحلّية والحكومة التركية. وفي الحرب التقليدية ضدّ "داعش"، كانت هذه المليشيا أداة مفيدة للمساعدة على استعادة الأراضي من تحت سيطرة التنظيم الإرهابي. لكن، في حرب القلوب والعقول بين المجتمعات العربية في شرق سوريا، ما يزال تنظيم "داعش" يجند أشخاصاً منها، ما يعني أنّ "قوّات سوريا الديمقراطية" كانت الأداة الخاطئة بكلّ تأكيد في هذا المجال.
الطريق عبر دمشق
بدلاً من الاعتماد على "قوّات سوريا الديمقراطية"، يمكن للولايات المتحدة أن تلجأ إلى الحكومة الجديدة في دمشق للمساعدة على القضاء على "داعش". وقد يبدو هذا اقتراحاً غريباً أوّل وهلة، فما زالت واشنطن تعدّ "هيئة تحرير الشام" التي تحكم سوريا الآن جماعة إرهابية. ومع ذلك، فإنّ هذا النوع من التصنيف لم يمنع الولايات المتحدة من العمل بشكل وثيق مع "وحدات حماية الشعب" التابعة لـ "حزب العمال الكردستاني" المصنّف أميركياً أيضاً كمنظّمة إرهابية.
لا شكّ أنّه يجب عدم التقليل من شأن تشدّد "هيئة تحرير الشام" وأيديولوجيتها العنيفة. فعندما كنت سفيراً للولايات المتحدة في سوريا، ترأست الجهود الأميركية في خريف عام 2012 لتصنيف "جبهة النصرة" المنبثقة من تنظيم "القاعدة"، كمنظّمة إرهابية. ثمّ اضطررنا إلى إغلاق السفارة في دمشق في شباط/فبراير عام 2012، بسبب تهديد جدّي من الجماعة. وفي وقت لاحق، سحقت "جبهة النصرة" "الجيش السوري الحر" واحتوت فلوله، وهو تحالف مناهض لنظام الأسد، وكانت تدعمه وزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في شمال سوريا. كما قامت "جبهة النصرة" بمضايقات المكوّنات السورية من المسيحيين والعلويين خلال السنوات الأولى من الحرب الأهلية. ودخلت الجماعة بتغييرات وتطوّرات مختلفة في اسمها، حتّى أصبحت في عام 2017 "هيئة تحرير الشام". مع ذلك، ثمّة شكوك كثيرة في واشنطن في أن تكون الجماعة المتشدّدة قد تخلّت عن الإرهاب فعلاً.
لكنّ الشرع يصرّ على خلاف ذلك، بزعم أنّ "جبهة النصرة" ثمّ "هيئة تحرير الشام"، حاولتا لسنوات الابتعاد عن الجماعات الإرهابية. وكان الشرع قد انفصل عن "داعش" في عام 2014، وخاض مع مقاتليه معارك دامية ضدّ التنظيم، ونجحوا في طرده في نهاية المطاف من شمال غرب سوريا. كما انفصل الشرع علناً عن تنظيم "القاعدة" في عام 2016، وقاتلت قوّاته أيضاً جماعة تابعة لتنظيم "القاعدة" تسمّى "حرّاس الدين" في تلك المنطقة. كما لم تقم "جبهة النصرة" ولا "هيئة تحرير الشام" بأي هجمات إرهابية بعد انشقاقهما عن تنظيمي "داعش" و"القاعدة"، وقمعوا محاولات هذه الجماعات لإعادة تأسيس وجودها في شمال غرب سوريا.
إنّ سلوك "هيئة تحرير الشام" ومحاولتها تحسين صورتها العامة خلال السنوات الماضية يجعل من الصعب تبرير إبقائها على القائمة الرسمية الأميركية للمنظّمات الإرهابية الأجنبية. ومنذ العام 2022، ومن دون التخلّي عن هدفها المتمثّل في إقامة حكومة إسلامية في سوريا، بدأت في إعادة منازل المسيحيين والأراضي الزراعية التي استولى عليها المسلّحون خلال أسوأ مراحل الحرب الأهلية فِي تلك المنطقة، ويقول زعماء مسيحيون إنّ معظم الممتلكات تقريباً أُعيدت بحلول العام 2023.
ويشير هذا السجلّ الحافل إلى أنّ "هيئة تحرير الشام"، وليس "قوّات سوريا الديمقراطية"، هي الأكثر قدرة على تقويض جاذبية تنظيم "داعش" واحتوائه في النهاية. في حين أنّ "قوّات سوريا الديمقراطية" محاصرة من قبل تركيا، في مقابل الحكومة الجديدة في دمشق التي تتمتع بدعم إقليمي متزايد، بما في ذلك من تركيا. ولعلّ الأهمّ من ذلك، في أنّ الشرع قد يحظى بدعم المجتمعات العربية في تلك المنطقة بسهولة أكبر، بدل أن يستمدّ منها تنظيم "داعش" المجندين.
وسوف تحتاج الحكومة الانتقالية السورية إلى وضع الجماعات المقاتلة العربية تحت القيادة المباشرة لـ"وحدات حماية الشعب"، ووضعها تحت إشراف وزارة الدفاع الناشئة في دمشق. وبالتوازي، سيتعيّن على حكومة دمشق أن تجد صيغة تسمح لها بتولي مسؤوليات الحكم في المناطق العربية في شرق سوريا، ما يعفي "قوّات سوريا الديمقراطية" من مسؤولياتها، مع أنّ هذه الإجراءات ستثير استياءها، ولكنّها سوف تساعد سوريا وشركاءها الإقليميين، في القضاء على "داعش" في نهاية المطاف.
كذلك، تحتاج إدارة ترامب إلى فتح قناة مع "هيئة تحرير الشام" لمناقشة الجهود المستقبلية ضدّ تنظيم "داعش". ويجب أن تشمل المحادثات مواضيع مثل كيفية انضمام الميليشيات العربية المحلّية التي تعمل الآن تحت مظلّة "قوّات سوريا الديمقراطية"، إلى الحملة ضدّ التنظيمات الإرهابية، ونشر جنود تابعين للحكومة في المناطق التي لا يزال "داعش" ينشط فيها. ولا بدّ من تعاون استخباري بين سوريا والولايات المتحدة، التي ساعدت بالفعل الشرع في إحباط هجوم لتنظيم "داعش" في دمشق في كانون الثاني/يناير الماضي. ويجب أن يتناول البحث القضية الأصعب، حول مُستقبل مخيمي الهول وروج، حيث لا يزال نحو 40 ألف شخص مرتبطين بتنظيم "داعش" محتجزين لدى "قوّات سوريا الديمقراطية".
ومع أنّ الشرع لم يتسامح مع أيّ تحدّ سياسي من العناصر الأكثر محافظة، وقد نفّذت إدارته في شمال غرب سوريا برنامجاً صغيراً لمحاربة التطرّف هناك، فإنّ حجم التحدّي في مخيم الهول يتجاوز بكثير ما تعامل معه الشرع من قبل.
ولمساعدة حكومة دمشق على تحقيق الاستقرار في سوريا ومحاربة تنظيم "داعش"، يتعين على واشنطن تخفيف العقوبات المفروضة على سوريا. ذلك أنّ إعادة بناء سوريا بعد الدمار الهائل الذي خلّفته الحرب الأهلية الطويلة قد تكلف أكثر من 200 مليار دولار. وبحسب تقديرات البنك الدولي لعام 2021، سيحتاج السوريون إلى مساعدات دولية واستثمارات خاصة، كما يجب أن تساهم الولايات المتحدة في تمويل المزيد من هذه الاستثمارات.
كما أنّ العقوبات المفروضة على الشركات الأجنبية التجارية التي تعمل في سوريا من شأنها أن تعيق تدفق رؤوس الأموال والسلع التي تحتاجها البلاد بشدّةٍ. ويقول رجال الأعمال في دمشق إنّ الإعفاءات المؤقّتة لإدارة بايدن قبل مغادرته البيت الأبيض في ذلك الشهر في مجالات الطاقة والمساعدات الإنسانية ليست كافية مطلقاً، بالنظر إلى حجم إعادة البناء المطلوب.
وإذا كانت إدارة ترامب متردّدة في رفع جميع العقوبات الكثيرة المفروضة على سوريا، فيمكنها على الأقلّ أن تبدأ بإقرار إعفاء قابل للتجديد لمدّة عام واحد، خاصة في تلك العقوبات التي تؤثّر في القطاعات المالية، والبناء، والصحة، والتعليم. ومثل هذه التدابير لا تكلّف وزارة الخزانة الأميركية بالضرورة، إذ إنّ الدول في المنطقة والجهات المانحة الأخرى سوف تقدّم المساعدات لسوريا. ولكنّ الولايات المتحدة لن تتخلى عن هذه التدابير إذا لم تُحترم التزاماتها.
في كلّ الأحوال، العقوبات الثانوية يجب أن لا تمنع هؤلاء المانحين والمستثمرين من القطاع الخاص من تقديم المساعدات. ومن دون مثل هذه الاستثمارات، ستظلّ سوريا عاجزة عن هزيمة "داعش"، تماماً كما فشلت حكومة الأسد في تحقيق ذلك بين عامي 2017 و2024.
لا تلمس عجلة القيادة
إنّ التحوّل بعيداً عن "قوّات سوريا الديمقراطية" نحو الحكومة الجديدة في دمشق لا يحكم على الكرد السوريين بمستقبل مظلم. فسلامة وازدهار المجتمعات الكردية لا تعتمد على القوى الأجنبية، بل على احترام الحكومة السورية لحقوقهم وحقوق جميع المواطنين السوريين الآخرين. ولكن، لا يزال من غير الواضح مدى رغبة "هيئة تحرير الشام" في إقامة ديمقراطية شاملة في سوريا. ولكن، لا جدال في أنّ السوريين الذين يعيشون تحت سيطرة الحكومة الجديدة يتمتّعون عموماً بحقوق سياسية وشخصية أكثر مما تمتّعوا به منذ تولّي حزب البعث السلطة في عام 1963.
في شهر كانون الثاني/يناير الماضي، زرت سوريا لمدّة 10 أيّام من ضمنها أسبوع في دمشق. ولقد لمست بوضوح حرّية التعبير في كلّ مكان. في المقاهي، كان السوريون الذين لم أكن أعرفهم يشعرون بحرّيَّة الانضمام إلى المحادثات السياسية وانتقاد الحكومة التي تديرها "هيئة تحرير الشام". لقد خرجت مظاهرات صغيرة في العاصمة السورية، ولم تتعرّض للضرب من قبل الشرطة. كما كانت زينة عيد الميلاد منتشرة في الأحياء المسيحية في المدينة القديمة، وقرعت أجراس الكنائس على نطاق واسع يوم الأحد. مع أنّ المسيحيين يشعرون بالتوتّر والقلق، إلّا أنّهم يقولون أنّ مخاوفهم لم تكن ردّة فعل على سلوك "هيئة تحرير الشام"، بل بسبب الخلفية الأيديولوجية لحكّام دمشق الجدد.
إنّ ترامب محقّ في الابتعاد عن الصيغ المحدّدة للتطوّر السياسي في سوريا. ومباشرة بعد سقوط الأسد، قال الرئيس على "إكس" إنّ مستقبل سوريا ليس مسألة تمليها الولايات المتحدة.
يحتاج السوريون إلى إعداد دستور جديد، ربّما ينتهي إلى استيعاب شكل من أشكال اللامركزية والفيدرالية، وهي سمات الدولة المستقبلية التي يصرّ قادة "قوّات سوريا الديمقراطية" والمكوّنات السورية الأخرى على تحقيقها. لا شكّ في أنّ صياغة الدستور سوف تستغرق بالضرورة وقتاً طويلاً، وتتطلّب قدراً كبيراً من الصبر، ولا يمكن للسوريين إجراء انتخابات إلا من خلال دستور قوي.
ومن المهمّ أن نتذكّر، بطبيعة الحال، أنّ تنظيم الانتخابات وتحديد حصص للمكونات داخل الحكومة لا يشكّلان وحدهما دعامة ضدّ الاستبداد. والتجارب في أفغانستان والعراق في القرن الجاري تظهر مدى صعوبة حلّ المشكلات الأعمق التي تواجه الثقافة السياسية. والانتخابات في سوريا ستكون لها فرصة أفضل لتعزيز الاستقرار الحقيقي والحكم الرشيد إذا نجحت الحكومة الانتقالية بالفعل في إرساء سيادة القانون وحماية الحرّيات السياسية والشخصية، من ضمنها حرّية الرأي والتعبير، والدين، وتكوين الجمعيات، والتجمّع، ومنع الاعتقال التعسفي. وينبغي للدول الغربية أن تركّز على تشجيع دمشق على التعامل مع السوريين باعتبارهم مواطنين في بلد واحد يتمتّعون جميعهم بالحقوق الأساسية، ولا ينبغي لهؤلاء استغلال الكرد والمسيحيين والدروز والعلويين والمسلمين السنة ضدّ بعضهم البعض.
يتعيّن على الولايات المتحدة أن تكون على استعداد لترك "قوّات سوريا الديمقراطية" تتراجع، وتشجّعها على الاندماج في هياكل سوريا الجديدة. وعلى واشنطن أن تصرّ على أنّها لن تسمح لتركيا بالتدخل في شؤون سوريا الداخلية. ويجب أن تتمكّن جميع مجموعات "قوات سوريا الديمقراطية" الكردية والعربية، من الاندماج في الجيش السوري الجديد في مدّة زمنية محددة بنحو عامين. ينبغي لواشنطن أن تضغط على دمشق و"قوّات سوريا الديمقراطية" والإدارة المحلّية للتفاوض على ترتيب انتقالي يغطّي القضايا الأمنية والهياكل الإدارية التي أنشئت في منطقة الإدارة الذاتية، وإعادة تقديم خدمات الحكومة المركزية، بما في ذلك ضوابط الحدود وإعادة فتح المكاتب الإدارية للحكومة المركزية التي تصدر جوازات السفر، وتسجل المعاملات العقارية
لا ينبغي لواشنطن أن تتورّط في التفاصيل أبداً. ويتعيّن عليها أن تلفت انتباه دمشق إلى مسألة بسيطة، إذا حاولت الحكومة السورية الجديدة تهميش الإدارة الذاتية وفرض انتقال من دون تعاون الكرد، فإنّ هذا يعني أنّ الولايات المتحدة لن تقبل في أيّ حال أن تتدخل في شؤونها الداخلية. وهذا من شأنه أن يشعل فتيل صراع جديد، ويعرقل القتال ضدّ "داعش"، ويؤخّر النظر الأميركي في تخفيف العقوبات. وينبغي لرسالة واشنطن إلى "قوّات سوريا الديمقراطية" أن تكون بسيطة أيضاً، وتقول إنّ سقوط نظام الأسد يعني أنّ الوقت قد حان الآن لتقديم تنازلات صعبة بشأن الترتيبات الأمنية والإدارية المستقبلية في الأراضي التي تسيطر عليها الميليشيا، بما في ذلك حلّ المجموعة تدريجياً.
لا ينبغي للولايات المتحدة أن تضغط من أجل تحديد حصة أو منصب حكومي محدد للكرد السوريين أو أي مجموعة أخرى. فقد رفضت "هيئة تحرير الشام" الحصص المخصصة على أسس عرقية أو طائفية، ووصفت الولايات المتحدة بأنها ارتكبت خطأ في وضع نظام التقاسم العرقي والديني الذي ترسخ في العراق المجاور قبل 20 عاماً.
إنّ الحراك الشعبي، المعزّز بسيادة القانون وحماية الحرّيات السياسية والشخصية، هو السبيل الوحيد لبناء ديمقراطية حقيقية في سوريا. سيكون الأمر بطيئاً وفوضوياً، وسيكون قبل كلّ شيء مشكلة يجب أن يحلّها السوريون. ولكن يجب ألّا يتطلّب الأمر يداً أميركية على عجلة القيادة أو قوّات أميركية على الأرض.