محددات القلق الغربي من التعاون الصيني مع أفريقيا
الإشراق | متابعة.
دأبت الصين وأفريقيا منذ عام 2000 على تنظيم منتدى التعاون الصيني الأفريقي (فوكاك Focac) كل 3 سنوات، مرة في الصين وأخرى في أفريقيا. ومنذ ذلك التاريخ تنامت علاقة التعاون الصينية الأفريقية.
"تسبب المسار الغربي بمعاناة عميقة للدول النامية، لكن السعي المشترك لتحديث الصين وأفريقيا سيجلب موجة من التقدم لجنوب العالم بأكمله. والأمر متروك لنا أن نجمع قوى أكثر من 2.8 مليار صيني وأفريقي، لمواصلة مسيرتنا نحو الحداثة، والمساهمة، من خلال تحديث الصين وأفريقيا، في تحديث الجنوب العالمي". من خطاب شي جين بينغ، أمام منتدى الفوكاك 2024.
أفريقيا، قارة المستقبل، دأب الغرب الاستعماري على استعباد شعوبها ونهب ثرواتها منذ قرون. وحتى حينما نالت جُل الدول الأفريقية استقلالاً شكلياً تولت تسييرها نخب رديئة وفاسدة، حرص الاستعمار على حمايتها وتوجيهها نحو نماذج تنموية وخيارات اقتصادية واجتماعية كرست الفقر والإفلاس والصراعات الأهلية، في مقابل إطلاق يده في الهيمنة على ثرواتها.
منتدى التعاون الصيني الأفريقي التاسع نحو أفق استراتيجي
دأبت الصين وأفريقيا منذ عام 2000 على تنظيم منتدى التعاون الصيني الأفريقي (فوكاك Focac) كل 3 أعوام، مرة في الصين وأخرى في أفريقيا. ومنذ ذلك التاريخ تنامت علاقات التعاون الصينية الأفريقية، وخصوصاً منذ عام 2013 تاريخ إطلاق الصين مبادرة "الحزام والطريق"، والتي تُعَد من المبادرات التي ستعيد رسم خرائط التجارة العالمية وتعزز مكانة الصين دولياً.
جاء انعقاد المنتدى التاسع في ظروف إقليمية ودولية بالغة التعقيد، بحيث يشهد العالم تبعات الركود الاقتصادي الذي تزامن مع جائحة "كوفيد"، وأثر في حجم المساعدات الصينية لأفريقيا وارتفاع وتيرة الصراع الدائر بين أميركا وحلفائها وقوى تتطلع إلى نظام عالمي جديد كروسيا والصين وإيران. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن الحرب الأوكرانية الروسية والحرب على غزة ما هي إلا تجليات لهذا الصراع.
كان خطاب الرئيس الصيني شي جين بينغ، أمام أكثر من 50 ممثلاً للدول الأفريقية حضروا المنتدى، بمنزلة خريطة طريق رسمت آفاق التعاون بين الصين وأفريقيا، ومناسَبة لإظهار تفهم الصين لتخوفات الأفارقة وانتظاراتهم، والرد على اتهامات الغربيين. إذ قال إن بلده وأفريقيا، في مواجهة الموجة العظيمة للعولمة الاقتصادية، عززا قدراتهما وطورا تعاوناً مثمراً لمصلحة المليارات من الشعب الصيني والأفارقة، واقترح "رفع العلاقات الثنائية بين الصين والدول الأفريقية إلى مستوى استراتيجي".
وبعد أن انتقد المسار الغربي للتحديث وما سببه من معاناة عميقة للدول النامية ومحاولات دول العالم الثالث، بما فيها الصين والدول الأفريقية، بعد الاستقلال، دعا إلى تصحيح المظالم التاريخية في عملية التحديث، وأضاف: "في سعينا المشترك للتحديث، سنطلق موجة من التحديث في الجنوب العالمي، ونكتب فصلاً جديداً في بناء مجتمع ذي مستقبل مشترك للبشرية". وقال: "إن تحديث أي بلد لا يجب أن يحترم القواعد العامة فحسب، بل يجب أيضاً، قبل كل شيء أن يتكيف مع الظروف الوطنية. وتعتزم الصين دعم مختلف البلدان في استكشاف طريق التحديث الذي يتكيف مع الواقع الوطني، والعمل على ضمان الحقوق والفرص المتساوية للجميع، إذ إن التنمية، المنسقة على المستويين المادي والروحي، هي المثل الأعلى النبيل على التحديث القائم على تكثيف التبادلات الإنسانية والثقافية والاحترام المتبادل، والتعايش الشامل بين مختلف الحضارات". وهو التحديث الذي يحترم البيئة ويتسم بالسلام والأمن المشترك والاستقرار في العالم. وطرح شي جين بينغ 10 إجراءات شراكة تعتزم الصين إنجازها في الأعوام الثلاثة المقبلة للمساهمة في التحديث في أفريقيا، وهي:
الشراكة من أجل الإلهام المتبادل بين الحضارات وتبادل الخبرات في مجال الحوكمة، ومن أجل ازدهار التجارة، والتعاون في مجال السلاسل الصناعية والعلمية والتكنولوجية والتحول الصناعي، ومن أجل الربط البيني عبر شبكة ربط برية وبحرية صينية في إطار مبادرة الحزام والطريق، وفي مجال التعاون الإنمائي، والصحة، والتنمية الزراعة، والتبادل، إنسانياً وثقافياً، والتنمية الخضراء، والشراكة الأمنية المشتركة.
ولضمان تنفيذ إجراءات الشراكة العشرة، وعد الرئيس الصيني بتوفير مليون فرصة عمل على الأقل، ومنح أفريقيا خلال الأعوام الثلاثة المقبلة دعماً مالياً قدره 50 مليار دولار أميركي: 29 مليار دولار في شكل خطوط ائتمان، 11 مليار دولار في شكل مساعدات و 10 مليارات دولار في شكل استثمارات .
وأكد أن الصين ستعمل على توسيع فتح أسواقها، ومنح معاملة صفرية جمركية لـ 100% من فئات المنتوجات المصدرة إلى الصين من الدول الأقل نمواً، والتي لها علاقات دبلوماسية بها. وتُعَدّ الصين أول دولة تتبنى هذا الإجراء، الذي سيجعل السوق الصينية فرصة عظيمة لأفريقيا. كما عبر الرئيس الصيني عن استعداد بلده لتطوير منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية ZLECAf وتعميق التعاون، لوجستياً ومالياً، للمساهمة في التنمية الإقليمية في القارة.
على المستوى الأمني، تعرف الصين مدى هشاشة الاستقرار في أفريقيا، وتعرف أن أحد مداخل الاستعمار لإدامة وجوده في دول الجنوب هو نشر الفوضى والعنف، إما عن طريق الانقلابات العسكرية واستعمال المرتزقة أحياناً، وإما عبر اللجوء إلى الانقلابات الناعمة، وإما من خلال توظيف الجماعات المتطرفة الإرهابية. لهذا، حرصت منذ أكثر من عقدين على التعاون الأمني مع الدول الأفريقية، كونه ضرورة حيوية لتأمين مصالحها ومصالح شركائها في أفريقيا.
في سياق هذا التعاون أشرفت الصين منذ عام 2018 على تدريب أكثر من 2000 ضابط شرطة أفريقي، وقدمت إمدادات إلى الشرطة، وتبادلت المعلومات الاستخبارية والخبرات، وقامت بعمليات مشتركة مع أفريقيا في إطار الإنتربول. كما استضافت، منذ عام 2019، الحوار بشأن تنفيذ مبادرة السلام والأمن بين الصين وأفريقيا، والمنتدى الصيني الأفريقي الأول للدفاع والأمن، وشاركت في المؤتمرات والمنتديات التي عقدتها البلدان الأفريقية في المجالات ذات الصلة. وبحلول عام 2023، أصبحت بكين المورد الرئيس للمعدات العسكرية لأفريقيا.
وتعتزم الصين، بمشاركة أفريقيا، تنفيذ مبادرة الأمن العالمي خلال الأعوام الثلاثة المقبلة. في هذا الصدد ستقدم إلى الجانب الأفريقي مساعدات عسكرية بقيمة مليار يوان صيني، وتدرب 6000 عسكري و1000 ضابط شرطة، وستُجري مع أفريقيا مناورات وتدريبات ودوريات مشتركة بين الجيش الصيني والجيوش الأفريقية.
القلق الغربي من التعاون الصيني الأفريقي
يحرص الغرب الاستعماري على تأبيد هيمنته على أفريقيا، وهو في هذا الصدد لا يخفي انزعاجه من دخول أي قوى عالمية هذه القارة، ويسعى لحصارها. يحدث هذا اليوم مع الصين وروسيا وتركيا وإيران.
قبل انعقاد منتدى التعاون الاقتصادي الصيني الأفريقي التاسع في بكين، بين 4 و6 أيلول/سبتمبر 2024، تحت شعار "العمل معاً لتعزيز التحديث وبناء مجتمع المستقبل المشترك الصيني الأفريقي رفيع المستوى"، وبعد انعقاده، شن الغرب، عبر وسائل إعلامه، حملة ضد الصين متهماً إياها بسعيها لوضع اليد على الثروات الأفريقية واستغلالها وتبذيرها، وفي مقدمتها التربة النادرة rares terre) ، Rare Earths)، كما اتهمها بإغراق أفريقيا في الديون التي فاق حجمها 1.8 تريليون دولار أميركي، حتى تتكمن من فرض توجهات سياسية واقتصادية تؤدي إلى فقدان الدول الأفريقية لسيادتها.
كما يتهم الغرب الصين بتغلغلها العسكري الذي يهدد وجوده ومصالحه في هذه القارة. ولعل السردية الغربية مستوحاة من تجاربه في هذه القارة، مع فارق أساسي هو أن ممارسات الغرب رافقها استعمال أقصى درجات العنف والاستغلال والعبودية، وتبذير الثروات وإثارة الحروب والنزاعات الدموية. والغريب أن الغرب يتناسى أنه هو الشريك الأول لأفريقيا اقتصادياً، وأن الدائنين الغربيين هم أكبر المقرضين للدول الأفريقية، وليست الصين.
الشراكة الصينية الأفريقية، في بعدها الأمني الاستراتيجي، التي أكدها المنتدى التاسع، زادت في القلق والمخاوف للاستعمار الجديد، الذي عبر بوضوح أنها تهديد لمصالحه في أفريقيا كونها ستفتح المجال أمام تزايد النفوذ الصيني الجيوسياسي وتحدي الاستعمار الذي يرى أن وجود قوى عظمى، مثل الصين أو روسيا في أفريقيا، يشجع بعض حكامها على التمرد على هيمنته (نموذج مالي، بوركينا فاسو، النيجر...).
ما يثير حفيظة الاستعمار في الأساس هو الموانئ التي اقترحتها أو بنتها أو تبنيها الصين في أفريقيا، ضمن مبادرة "الطريق والحزام"، المكونة من عنصرين أساسيين : أحدهما بري (الطريق) عبارة عن 6 ممرات برية، تنطلق من الصين في اتجاه آسيا الوسطى وغربي آسيا وأوروبا وشبه جزيرة الهند وسنغافورة، وفي اتجاه باكستان وبحر العرب.. والآخر بحري: "الحزام" ويعني شبكة موانئ تربط الصين، انطلاقاً من الميناء الصيني "فوزهو FUZHOU"، بأوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا، مروراً بفيتنام وإندونسيا وبنغلاديش والهند وسيريلانكا وباكستان وجزر المالديف، متجهاً إلى البحر الأحمر، ماراً عبر قناة السويس إلى البحر المتوسط نحو أوروبا (اليونان) والجزائر (ميناء الحمدانية، الذي سيقع ضمن طريق حرير بري/بحري، يربط الصين بالجزائر وصولاً إلى نيجيريا)، كما يمتد من شرقي أفريقيا إلى غربيها عبر رأس الرجاء الصالح. هذا الحزام أطلق عليه الأميركيون اسم "عقد اللآلئ" (String of Pearls/collier des perles).
الصين لا تخفي نياتها إنشاء هذه الموانئ الاستراتيجية، فلقد صرح شي جين بينغ بأنه يريد أن يجعل الصين "دولة بحرية عظيمة"، وهو ما يمثل نقطة تحول في الاستراتيجية الصينية التي تم تعريفها دائماً كقوة قارية. رؤية الرئيس الصيني هذه تم تأكيدها بقوة في الكتاب الأبيض التاسع للدفاع (2015)، بحيث تم تقديم المجال البحري كأولوية استراتيجية، وهو ما يتطلب من البحرية الصينية أن تركز أكثر على حماية "البحار المفتوحة" والانتقال بالتدريج من "استراتيجية الدفاع عن المياه الإقليمية الصينية إلى استراتيجية مشتركة للدفاع عن هذه المياه والحماية في أعالي البحار ".
الهدف إذاً من "عقد اللآلئ" عملياتي واستراتيجي، لهذا تسعى الصين لأن تتمحور قوتها البحرية الصينية المستقبلية حول الغواصات وحاملات الطائرات والقدرات البرمائية والجومائية وبوارج وسفن الشحن المرافقة والداعمة والقوات الجوية الاستراتيجية والأقمار الاصطناعية عالية الدقة، والتي ستحقق الأهداف المحددة، كالوجود بالقرب من المجالات الاستراتيجية والمساعدة في حماية طرق الشحن وممرات إمدادات الطاقة.
بعض الموانئ ذات المياه العميقة أنشأتها الصين في المحيط الهندي والقرن الأفريقي لاستقبال حاملات الطائرات وبعض الغواصات الثقيلة والبوارج الضخمة، لكن أغلبية موانئ "عقد اللآلئ" التي أنشأتها الصين هي موانئ لوجيستية مزدوجة الاستخدام (usage logistique dual–ULD/ DULF-Dual Use Logistic Facility). فهي تعمل كمنشآت المدنية قادرة على التحول لدعم العمليات العسكرية عند الضرورة.
في شهر شباط/فبراير 2014 وقّعت الصين وجيبوتي معاهدة أمنية تتضمن، إضافة إلى تأهيل القوات المسلحة الجيبوتية، بناء قاعدة بحرية في جيبوتي، وهو ما تم في كانون الثاني/يناير 2016، حينما أنشأت الصين في دوراليه (باب المندب) أول قاعدة عسكرية جو بحرية صينية دائمة في الخارج. واستهدفت الصين من وراء القاعدة الجديدة تحقيق أهداف استراتيجية، وفقاً للأولويات العسكرية التي سطرها الحزب الشيوعي الصيني في "الكتاب الأبيض"، الذي صدر في أيار/مايو 2015، وجاء فيه: "تسعى الصين لامتلاك مبادرات استراتيجية في الصراع العسكري، على نحو يقوم بالتخطيط الاستباقي للكفاح المسلح في كل الاتجاهات والمجالات، واغتنام الفرص لتسريع البناء العسكري".
كما سعت الصين لمد "عقد اللآلئ" عبر جنوب أفريقيا نحو غربها، بحيث أقامت في ناميبيا قاعدة جو بحرية في ميناء "والفيس باي" Walvis Bay. وقال الجنرال الأميركي ستيفن جيه تاونسند، المسؤول في وزارة الدفاع الأميركية، في تصريح لصحيفة "لوموند" في آذار/مارس 2022، إن تمويل وبناء ميناء "باتا" في المياه العميقة لغينيا الاستوائية سيسمح للصين بوضع سفنها الحربية في شواطئ المحيط الأطلسي قبالة الساحل الأميركي، مضيفاً أن عرقلة مساعي الصين تحويل هذا الميناء إلى قاعدة عسكرية بحرية على الساحل الأطلسي لأفريقيا يشكل أولوية لبلاده.
خاتمة
الصين ليست جمعية خيرية تبحث عن محتاجين للمن عليهم بالعطايا، وليست تاجراً جشعاً لا يهمه سوى الربح ولو كان بلون الدم والحروب. وحينما تقبل الصين انضمام جنوب أفريقيا ومصر وإثيوبيا إلى تجمع "بريكس"، وتسعى للارتقاء بعلاقتها بأفريقيا إلى مستوى العلاقات الاستراتيجية، فلأنها تؤمن بإمكان أداء هذه القارة دوراً في بناء النظام العالمي الجديد. كما ترى أنه لا يمكن أن يكون هنالك تحديث عالمي من دون تحديث أفريقيا، بما يتوافق مع المضامين والأهداف لمخرجات منتدى "فوكاك" 2024 ببكين وأجندة 2063 للاتحاد الأفريقي. وطبيعي أن يكون لدولة عظمى تطمح إلى أن تصبح القوة الاقتصادية الأولى عالمياً قدرة على حماية مصالحها، وبالتالي تسعى لامتلاك قوة عسكرية ضاربة. ومن المؤكد أن للصين رؤية استراتيجية شاملة، والمشكلة في الدول الأفريقية التي تفتقد مثل هذه الرؤية.