الذكاء الاصطناعي والرؤى المعولمة

الاشراق | متابعة.

على الرغم من تفتت السرديات الكبرى، فإن ثمة سرديات أخرى مستجدة ومتجهة صوب التبلور المتعالي، استحدثتها الظروف السياسية والاجتماعية التي تعصف بالعالم، وما يجري فيه من تقدم تكنولوجي هائل، ألقى ظلاله على مناحي الحياة كلها. ومن تلك السرديات الذكاء الاصطناعي، الذي بمرور الزمن وسرعة عجلة التكنولوجيا، أصبح سردية كبرى وموضوعة من موضوعات المتخيل السردي، يلاقي تشكلها الخارق اهتماما أدبيا وفلسفيا غير قليل.

 ومن الكتب التي اهتمت بدراسة هذه الموضوعة كتاب «تخيل الذكاء الاصطناعي» 2023 حرره ستيفن كايف وكنتا ديهال، ومما أكداه في المقدمة أن الذكاء الاصطناعي ظاهرة ثقافية قبل أن يكون ظاهرة تكنولوجية، وأن مسمى الذكاء الاصطناعي يعود إلى الأمريكيين الذين وضعوه اصطلاحا عام 1946 من دون أن يشيروا إلى أنه اختراع جديد، وإنما هو تصميم مطوّر للخيال العلمي.

سرديات الذكاء الاصطناعي

وشرح المحرران ما يميز موضوعة هذا الكتاب بالقول: (قمنا بتضمين الكتاب فصولا حول سرديات الذكاء الاصطناعي المناهضة للاستعمار أو ما بعد الاستعمار من أمريكا اللاتينية وجنوب آسيا وجنوب الصحراء الكبرى الافريقية والسكان الأصليين في أمريكا الشمالية. تظهر هذه الفصول، أن هذه المقاومة يمكن أن تتخذ أشكالا متعددة، لكن الموضوع مشترك ويتردد عبر القارات في الوقت نفسه؛ نرى سرديات حول اللحاق بركب الدول الأخرى، خاصة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، من كوريا الجنوبية والهند وروسيا على حد سواء.
ويكشف المساهمون في هذا الكتاب كيف أن السرديات قاومت ودعمت تاريخيا مجموعة من الأيديولوجيات، بدءا من الشيوعية في الصين والاتحاد السوفييتي وإيطاليا في منتصف القرن العشرين، وصولا إلى النيوليبرالية في تشيلي والتقنية في سنغافورة).
وما يذهب إليه أغلب المساهمين في تأليف هذا الكتاب، هو مقارنة الرؤى بين الدول الناطقة بالإنكليزية، أو الدول الرأسمالية والدول الناطقة بلغات أخرى، ثم المقاربة في ما بينها من ناحية ما يسود سردية الذكاء الاصطناعي من مشتركات ثقافية وما تتفرد به من اختلافات وتمايزات.
ومن المساهمات اللافتة للنظر الدراسة الموسومة بـ(واحة الذكاء الاصطناعي: متخيل الآلات الذكية في الشرق الأوسط وشمال افريقيا) واشترك في كتابتها خمسة باحثين من بينهم باحثتان مصريتان. ومن القضايا التي تناولوها تأثر سردية الذكاء الاصطناعي بمسائل (الاستعمار، رؤى الماضي الطوباوي، الديناميات السياسية، العلاقة بين الجنسين). وابتدأوا بالتأكيد على حقيقتين:
الأولى أن تاريخ تخيل الآلات الذكية في مجتمعات المنطقة العربية يعود إلى مرحلة الازدهار الحضاري في القرنين التاسع إلى الرابع عشر الميلادي، لكن تصورات هذه المجتمعات لمستقبل التكنولوجيا هو في الوقت الحاضر متأثر بالتصورات الغربية لتطور الذكاء الاصطناعي وتصنيع تقنياته، فضلا عن الصراعات السياسية والاقتصادية المعاصرة. والحقيقة الأخرى هي أن قصص وروايات الذكاء الاصطناعي قليلة، قياسا بما في العالم الناطق بالإنكليزية. وبسبب هذه الشحة الأدبية توسع مفهوم المتخيل السردي ليشمل وسائل التواصل الاجتماعي، ومجتمع الإنترنت وأصحاب المشاريع الفنية والشركات الناشئة المحلية وهي حسب الدراسة، تستجيب للتصورات الغربية حول التقدم التكنولوجي. وخلافا لسائر الدراسات التي اشتمل عليها كتاب «تخيل الذكاء الاصطناعي» اهتمت هذه الدراسة بتحديد أسباب استعمال مسمى (الشرق الأوسط وشمال افريقيا) ورمزت إليه اختصارا بـ(MENA) ومن تلك الأسباب: أن الدول التي تضمها الجامعة العربية وعددها 22، فيها تتداخل إيران وتركيا وقد يستبعد منها الصومال وموريتانيا وجزر القمر. ومن الأسباب ايضا أن في هذا المسمى توصيفا إقليميا يُخرج دول الخليج عن الدراسة، بوصفها تمتلك سياسة خاصة في تبني الذكاء الاصطناعي ونشره وتطويره بالاعتماد على العمالة الوافدة التكنوقراطية، التي إليها تعهد مهمة تطوير قدرات تلك الدول، واستثمار أموالها على نطاق واسع، ما يجعلها متقدمة على الدول العربية الأخرى في المنطقة، التي تواجه تحديات اقتصادية وسياسية تحول دون تقدمها في مجال الذكاء الاصطناعي.
والغريب أن الدراسة في تقصِّدها استعمال هذا المسمى ترى فيه سلبية أيضا من ناحية أنه يجعل التصور التكنولوجي لسردية الذكاء الاصطناعي متنوعا بشكل كبير وغير متجانس. ونتساءل إذا كان الوضع بهذا الاتساع، فلماذا إذن لم يحدد الباحثون المنطقة باسم دولة مصر، كونها هي الميدان التطبيقي وحولها تدور الإحصاءات الواردة في هذه الدراسة، أو يحددوا المنطقة باسم (البلدان العربية) لوجود تحليلات فيها ترد أسماء دول عربية معينة؟ ما من شك في أن العربية هي السمة الجامعة بين بلدان المنطقة، وهذا ما تؤكده الدراسة نفسها، لكن بشكل غير علني، ويبدو أن السبب الرئيس في تعمد استعمال مسمى (الشرق الأوسط وشمال افريقيا) هو استتباع ما تروجه الماكنة الإعلامية الغربية، وبه تتفادى ذكر مفردة (عربية) التي فيها تتجلى اللغة والثقافة والتاريخ، ومنها تتشكل متخيلات أبناء العربية لتقنيات وبرمجيات الذكاء الاصطناعي.
وعلى الرغم من تأكيد الباحثين الخمسة، أن مسمى الشرق الأوسط وشمال افريقيا لا يعكس البعد التاريخي والثقافي للبلاد العربية، وأن اللغة العربية هي القاسم المشترك بين دول المنطقة، فإنهم في المقابل أكدوا ما لمسمى الشرق الأوسط من ضرورة استراتيجية ودبلوماسية أوروبية، نشأت منذ القرن التاسع عشر تمييزا للمنطقة الواقعة بين ما سموه (شرق قريب وشرق أقصى) وعن ذلك قالوا: (يعكس مصطلح الشرق الأوسط وجهة نظر أوروبية حول هذا الجزء من العالم، إلا أننا قررنا الحفاظ على استخدام مصطلح الشرق الأوسط وشمال افريقيا كوحدة من وحدات التحليل المعتمدة على نطاق واسع، وتستعمله منظمات دولية مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي وكذلك المؤسسات البحثية).

ولا يخفى ما في هذا التركيز والتحديد لمسمى الشرق الأوسط وشمال افريقيا من إقرار بهيمنة البعد السياسي على الدراسة، بدلا من أن يكون التاريخ هو المفصل في توزيع مباحث الدراسة، أسوة بالدراسات الأخرى التي ضمها الكتاب موضع الرصد.
ويأتي مبحث «صحراء التكنولوجيا» ضمن الدراسة نفسها ليؤشر ما للذاكرة السردية العربية من ارتباط وثيق بتاريخ الاستعمار القديم، بدءا من القرن الثالث عشر حتى أوائل القرن التاسع عشر، وما جرى من انحدار حضاري تغير مع الاستعمار الحديث، وعمليات الاستشراق، ثم بدأت مرحلة جديدة سماها الباحثون بصحراء التكنولوجيا Technology desert وامتازت بنقص الإمكانيات وزيادة الاستهلاك. فكان أن عانت هذه الدول من هجرة العقول في مجال التكنولوجيا، مع الفقر الظاهر في وجود قصص عربية حول الذكاء الاصطناعي، ومستقبل الروبوتات والآلات الذكية. ليكون الاعتماد قائما على ما يصدِّره الغرب من سردية الذكاء الاصطناعي إلى المنطقة كروايات وأفلام ومسلسلات خيال علمي، إلى جانب أفلام الأنيميشن مثل Grendizer من اليابان. وساهمت هذه العولمة الإعلامية في تعزيز صحراء التكنولوجيا فتراجع الإنتاج المحلي، ولم يتح للكتّاب العرب سوى مقدار ضئيل من التعبير عن وهم التقدم التكنولوجي في بلدانهم. لكن ماذا عن الإرث السردي الذي تنفرد به هذه المنطقة، بوصفها شهدت أقدم الحضارات على وجه الأرض وتحفل بالحكايات الخرافية والأساطير والقصص التي فيها من العجيب والغريب ما يجعلها إلى اليوم موضع إدهاش وتأثير، كما في حكايات ألف ليلة وليلة وقصص الحيوان والمنامات ورحلات السفر والقصص الصوفية والفلسفية. لا تنكر هذه الدراسة أن المرويات التراثية أثَّرت في الغرب اللاتيني المسيحي في العصور الوسطى، لكن الدراسة ترى أن ذلك كان قبل ألف عام، وفيه كان البحث عن يوتوبيا عصر ذهبي وليس يوتوبيا عصر مستقبلي.

أما في العصر الحديث فإن الغرب ربط التخييل بالمستقبل، فكانت يوتوبيا توماس مور. ونرى في هذا الرأي إطلاقا عاما وغير دقيق؛ ففي كثير من قصص العصور الوسطى وكتب الرحلات مدن متخيلة رسموا فيها يوتوبية جنة موعودة، كما في قصة «الجزيرة الخضراء» من كتاب «بحار الأنوار». ومما تذهب إليه هذه الدراسة أن الاستعمار الحديث فرض على الدول التي استعمرها حداثته فكان هناك انقسام كبير بين حالة التأخر التي كانت عليها في الماضي، وحالة الحداثة المرتبطة بالمستعمر، وهذا ما جرَّد أبناء هذه الدول من قدرتها على تخيل مستقبل خاص بها. ولو افترضنا أن هذا كان حاصلا فعلا، لما كان لأدبنا العربي تقاليد موروثة، استمر يسير عليها على طول عصر النهضة ومطلع القرن العشرين، ثم تطورت في العقود اللاحقة بما دخل إليها من تقاليد الأدب الغربي.
وعلى الرغم من التبعية والعولمة، فإن المتخيل السردي العربي ظل حيويا ومستمرا، رغم قلة نتاجه في مجال الخيال العلمي والذكاء الاصطناعي. ذلك أن القاص والروائي العربيين على اختلاف الأجيال وتنوع الاهتمامات معنيان بالتعبير عما في الواقع من ظواهر وتحديات، فكانت أهم صور السرد العربي الحديث والمعاصر، تتمثل في مقاومة الهيمنة الاستعمارية بكل أشكالها ومواجهة الغزو الثقافي الناعم والعولمي، وتأكيد الهوية والوعي الفكري بالنزعات والظواهر المجتمعية مثل، النزعة الاستهلاكية وهدر الموارد البشرية والمادية والإضرار بالبيئة وعناصرها الطبيعية. وبالطبع تنطوي هذه الاهتمامات على رؤية مستقبلية لما ينبغي أن يكونه المجتمع العربي.
وتركز الدراسة على سوق العمل في مصر، من ناحية الحاجة إلى توفير تعليم عالي الجودة وضرورة التأهيل والتدريب في اتجاه الاقتصاد الأخضر ومحو الأمية الرقمية. وأن الأتمتة مع الذكاء الاصطناعي ستشمل قطاعات التصنيع والنقل على المستوى الحكومي ومستوى الشركات متعددة الجنسيات.
وتتضح مؤشرات ذلك كله في السياسة المصرية وطرقها في البحث عن الحداثة، ففي زمن الرئيس جمال عبد الناصر، كان السعي إلى الحداثة يأتي من الشرق ودعم الاتحاد السوفييتي، وتغيرت هذه السياسة مع الرئيس أنور السادات الذي اتبع سياسة الانفتاح على الغرب الإمبريالي بعد حرب 1973. فكان السعي نحو الحداثة يأتي من الغرب وتحديدا الولايات المتحدة كنموذج للنمو الاقتصادي وتزامن هذا التحول مع أتباع المؤسسات المالية لبرامج اقتصادية وسياسات إصلاح هيكلية، كان من نتائجها إدخال الإنترنت إلى مصر في التسعينيات، وبناء شبكة اتصالات، تدعم النمو الاقتصادي الطموح.

مؤدى القول إن احتكار الذكاء الاصطناعي كتقانة تكنولوجية، ومعارف علمية هو سبب من أسباب تضاؤل سرديته في البلدان العربية بوصف هذه السردية صورة من صور التبعية للهيمنة الثقافية ورؤاها الأيديولوجية المعولمة.

تقرير للكاتبة نادية هناوي.