16/02/2024
ثقافة و فن 355 قراءة
نيقولاي غوغول في رحلته إلى فلسطين
الاشراق | متابعة.
يخوض الباحثون عادة في الحديث عن أبرز أعمال الكاتب نيقولاي فاسيليفيتش غوغول (1809-1852)، لكنهم قلّما يتناولون تأمّلاته الأخلاقية والروحية، التي تجسّدت في رحلته إلى فلسطين التي اعتبرها سعياً إلى ذروة تجدّده الروحي في السنوات الأخيرة من حياته. فهل تحقّق هذا التجدّد؟
تتناثر المعلومات حول هذه الرحلة في رسائل غوغول إلى أصدقائه ومعارفه، فهو لم يسكبها في نصّ واحد، وربما احتفظ بها لنفسه، حيث شكّلت بالنسبة إليه "أهم حدث في حياته".
عاش الكاتب منذ أواسط ثلاثينيات القرن التاسع عشر تحت ضغوط نفسية هائلة، فبات يتردّد على مزارات كييف بدءاً من عام 1836، وقد تركت لديه "انطباعات قوية". فكان أن خطط لرحلته إلى القدس. بحلول بداية خريف عام 1841، بعدما أنهى عمله على المجلد الأول من "النفوس الميتة"، توجّه إلى موسكو لنشره، لكنه واجه الكثير من العراقيل لدرجة أن أصيب بالاكتئاب، فقد أزعجته الرقابة المسبقة على المطبوعات وأنهكته المراجعات، فنضجت في ذهنه خطته للرحلة إلى فلسطين.
تحدّث غوغول عن ذلك بشيء من الوضوح في رسالة إلى صديقه الكاتب سيرغي تيموفييتش أوكساكوف (1791-1859)، محاولاً تبديد الحيرة التي نشأت بين أصدقائه من الشائعات بشأن عزمه أن يرحل بعيداً.
بالنسبة إلى دائرة الأصدقاء، بدت نيّته الذهاب إلى فلسطين غريبة، حيث لم يدركوا ما يمرّ به نفسياً، يقول: "حدّقوا فيّ بدهشة، ووزنوني من رأسي إلى أخمص قدمي، وكأنهم يتساءلون: هل هو منافق أم مجنون؟". فكان أن ازداد انتشار الشائعات حول رحلة غوغول بشكل مشوّه لدرجة أن والدته ماريا إيفانوفنا (1791-1868) نفسها تخيّلت أن ابنها "ينوي البقاء إلى الأبد في القدس. لكن لم يعرف أحد السبب الحقيقي وراء الرحلة، لأنّ قلّة من الناس كانوا على دراية بتطلّعات الكاتب الذي كان متعطّشاً إلى التعمّق الروحي الذاتي. في الواقع تعلّقت روحه بفلسطين البعيدة حيث الاستقرار الروحي والإيمان البسيط، كما عبّر يوماً "تلك التقوى البسيطة التي تتنفّسها موسكو الطيبة من دون التفكير في أن تكون أفضل".
إلا أن غوغول ربط شروعه بالرحلة بإتمام "النفوس الميتة"، أو كما كتب سنة 1842: "إن إكمال عملي قبل رحلتي ضروري بالنسبة إليّ، فهو مثل الاعتراف قبل المناولة". لكنه لم يحرز أي تقدّم حتى عام 1845، حين انهار وأحرق مخطوط المجلد الثاني من روايته، فاختل توازنه النسبي، وباتت رحلته إلى القدس ضرورية لسبب آخر، حيث خال أنه هناك سيجد الشفاء التام لما هو به، فغادر موسكو إلى إيطاليا مطلع شتاء ذلك العام، آملاً أن ينطلق ربيع 1846 نحو فلسطين.
لكن حلمه لم يتحقّق وباتت حالته النفسية تنعكس آلاماً جسدية، وباتت القدس هاجسه. كتب في 8 تشرين الثاني/نوفمبر 1846: "ستكون علامة، عندما يحترق كل ما بداخلي بقوة كبيرة: قلبي وروحي وأفكاري وتكويني برمّته، مع الرغبة العارمة في الطيران إلى هذه الأرض المقدّسة الموعودة، بحيث لن يتمكّن أي شيء من كبحها، وإذ ما تلطّفت الإرادة السماوية بريح مواتية، سأندفع كسفينة لا تحملها نفسها".
تأخر تسلّم نيقولاي غوغول جواز السفر من وزارة الخارجية القيصرية حتى 21 شباط/ فبراير 1847، وكانت صحته متدهورة، وبات من الواضح أنه لن يتمكّن من الوصول في الربيع، فبقي في نابولي. لم يعد غوغول نفسه، ذاك الذي كانت روحه ترغب في الطيران إلى القدس، بل عبّر في كانون الثاني/يناير 1848، عن أنه "يخجل من عدم الذهاب"، فركب السفينة في الـ 22 من ذلك الشهر وانطلق. سحقته السنوات الثماني الأخيرة وبدّدت آماله، وكان جاف الروح مريض الجسد، فانعكس ما في داخله على كل ما رآه وسمعه ولمسه.
ولعل أهم أثر تركه عن تلك الرحلة ردّه على رسالة الشاعر فاسيلي أندرييفيتش جوكوفسكي (1783-1852)، الذي طلب منه أن يدوّن بالتفصيل مجمل انطباعاته عن فلسطين، كي تساعده المشهدية في نظم قصيدة للديار المقدّسة. فكتب غوغول رسالة إليه في 28 شباط/فبراير 1849، جاء فيها:
"ها أنا جالس لأخطّ جواباً على كتابك وقد لمست تحسّناً بعد مرض أقعدني أسبوعاً ونصف الأسبوع. صديقي، سألتني أن أصف لك فلسطين، بكل أماكنها وألوانها لعل وصفي لها يجديك. أتدرك أي ثقل ألقيت به على كاهلي؟ وما عساي أقول بعد كل ما قيل قبلي؟ أي ألوان وأوصاف أخطّها لك بعدما استنفدها آخرون... ما الذي أستطيع قوله عن جبال فلسطين المتماثلة المتراصة تراصّ أمواج رمادية لا نهاية لها، تتماوج كأنها في بحر... قد ترى أحياناً، ويندر ذلك، عدداً من أشجار الزيتون لا تتجاوز خمساً أو ستاً، على منحدر جبلي. أما اللون فرمادي، يسري على الصخور والجبال معاً. يصدف أن يمرّ غشاء طحلبي رقيق بلمحة بصر، فتلحظ أرضاً مخضوضرة وسط مشهد الجبال الصخرية العارية. قد تسير أربع أو خمس ساعات لتلتقي بكوخ ملتصق بالجبل يقطنه عربي. كوخ يشبه قدراً خزفياً أو موقداً أو جحر وحش كاسر، وفي وسط هذه الصحراء تقع مدينة القدس، وبيت لحم وجلّ مدن الشرق، ككومة من الأحجار المنثورة كيفما اتفق".
يكتب غوغول من داخل نفسه المحطّمة عن الرمادي في كلّ شيء، متغاضياً في رحلته من بيروت جنوباً، عبر صيدا وصور وعكا، غابات جبال لبنان وجبل عامل والجليل. تفيض في وصفه صحراء روحه فلا يرى بعينيه سوى الصخور الجرداء. يضيف: "ما الذي يمكنني قوله عن تلك الديار إن لم ترَ بأمّ العين المتأمّلة الحالمة النجوم فوق بيت لحم، والحمائم فوق مياه نهر الأردن في يوم مهيب؟ لا أدري ما أقوله عن فلسطين كي تتنبّه أحاسيسك وتستيقظ شاعريتك لتستلّ الريشة فتسطّر قصيدة. أرى أنّ أيّ إنسان بسيط غيري، بقي في قلبه شيء من الإيمان، كان ليركع ويصلّي ويسكب الدمع على كل بقعة من بقاع الديار المقدّسة، وكان ليكتب لك خير مما أكتب. أما أنا فقصدت فلسطين كي أدرك بنفسي، وأرى وألمس، كم هو مهول جفاف قلبي. صديقي، لقد جفّ قلبي ويبس. لقد أكرمني الربّ فقضيت ليلة كاملة عند القبر المقدّس أحاكي الأسرار. لكن، وعلى الرغم من ذلك لم أغدُ أفضل مما كنت عليه".
جال نيقولاي غوغول في فلسطين هائماً في ضوضاء نفسه يكاد يكون منفصلاً عن الواقع حوله، يقول: "هناك في السامرة قطفت زهرة، وفي الجليل أخرى، وحبسني المطر في الناصرة يومين، فنسيت أني في هذه الديار، وكأني في محطة ما في روسيا. رأيت آثاراً تدل على أن هذه البلاد الجرداء كانت في غابر السنين حقاً بلاد اللبن والعسل".
طغى الجفاف على ناظري غوغول، فلم ترَ عينا الكاتب كلّ ذلك الجمال الذي وصفه عشرات الكتّاب والشعراء السلاف، ومنهم الشاعر بيوتر أندريفيتش فيازيمسكي (1792-1878) وأرتيمي ألكسيفيتش رافالوفيتش (1816-1851)، وفرانتيشيك كليمنت (1851 - 1933)، ولم ترَ عيناه الخضرة التي رسمها مكسيم نيكيفوروفيتش فوروبيوف (1787-1855) وتلميذاه غريغوري ونيكانور تشيرنيتسوف، وفاسيلي دميتروفيتش بولينوف (1844-1927)، وعشرات الرسّامين. كان ذهن غوغول في مكان آخر، ربما، بفلسطين الزاهية الموعودة التي بدّدت صورتها سنواته العجاف. ماذا لو تحقّق له ما أراد منذ البداية؟ ماذا لو تمكّن من الانطلاق إلى فلسطين بعدما أشبع بروحانية مزارات كييف، وكان ممتلئاً أملاً؟ أكنّا لنقرأ نصاً آخر؟ ماذا لو لم يربط مصير الرحلة بمصير رواية "النفوس الميتة" التي لم تنتهِ، فجفّ قلبه وجفّت روحه، وبات حين وصل إلى ديارنا أحد تلك النفوس الميتة!
الكتاب: عماد الدين رائف