27/01/2024
ثقافة و فن 157 قراءة
هل مات الغرب؟
الاشراق
الاشراق|متابعة
يتواتر الحديث عند الغربيين عن "موت الغرب وانتحاره". لماذا؟ وما الدلائل على ذلك؟
ثمة قول شعبي عندنا مفاده أن "لا شيء يأتي من الغرب يسرّ القلب"، وذلك نتيجة خبرات المنطقة العربية التي لم تعرف إلا الحملات العسكرية والغزو والاستعمار ودعم الاحتلال الاستيطاني لفلسطين، وتأييد آلة القتل والإبادة ضد الشعب الفلسطيني.
هكذا كان الغرب "السلطوي" مدار تساؤل عندنا عن مراميه وماهيته وديناميته. وامتلكتنا رغبة عاطفية عارمة برؤيته منهزماً.
وبعيداً عن مشاعرنا ضده، فإن الدراسات والبحوث عنه، القديمة والجديدة، تفيد بمأزقه لأسباب متعددة: ديموغرافية واقتصادية وأخلاقية وتراجع القيم السياسية، وتواتر الحديث عند الغربيين أنفسهم عن "موت الغرب" و"انتحار الغرب".
في المقلب العربي أيضاً كان اهتمام بهذه المسألة الحيوية، فكتب الباحث المغربي، حسن أوريد، عن "أفول الغرب" (2018)، آخذاً من الأزمة الإقتصادية في عام 2008 مدخلاً، وتعبيراً عن أزمة بنيوية. ولاحظ أن روسيا تعود بقوة إلى الشرق الأوسط، منذ عودة فلاديمير بوتين إلى الكرملين عام 2012، مع رغبة في الثأر لما تعرضت له من إهانة على الساحة الدولية. ورأى في ضم روسيا إلى جزيرة القرم (2014) لحظة تحول في الصراع مع الغرب وعودة إلى الحرب الباردة، والتي تبيّن أنها ساخنة. وهنا، نعود إلى بسط بعض مقولات الانهيار الغربي، وبعض أسبابه.
التدهور الحضاري
فكرة الأفول نفسها ليست جديدة، فعند كل مفترق حضاري خطير تصعد إلى السطح، ولا يمكن عزل كتاب أزوالد شبنغلر (1880- 1936) "أُفُول الغرب"، عن السيّاق الألماني والأوروبي في شكل عام. فهو، على غرار فيلسوف إرادة القوة، نيتشه، أراد إعادة تقويم التاريخ، واستلهم عنوان كتابه من كتاب تاريخ قديم بعنوان "أُفُول العصور القديمة" (Die Untergang des Antiktum).
واكتشف أنَّ التاريخ عملية طبيعية لا ترحم، وأنها بعيدة تماماً عن الأهداف والرغبات الإنسانية. في عام 1913 كان الشعور بأن القدر يتخلَّى عن "الغرب"، وأن أوروبا كانت تقف في ذلك العام على حافة تغيُّرات كارثية، وثمة توق إلى بداية جديدة، فكانت الدعوات إلى "تجديد روح" الأمة في ألمانيا، واليقظة القومية في فرنسا. وساد الاقتناع بأن هذا العالم بات قديماً جداً، وقدوم الحرب في عام 1914 سيمثل نهاية حتمية للقرن التاسع عشر "المتشظي، الحرج، المرتبك".
وأتى "أُفول الغرب"، كما أوضح شبنغلر في مقدمته "تعليقاً على تلك اللحظة الحاسمة"، أي مجيء الحرب، وكتب: "ما كتبته في أثناء هياج تلك الأعوام وتوتُّرها، كان نظرةً جديدة إلى التاريخ وفلسفة المصير". فأتى الكتاب عرضاً ملخَّصاً للتشاؤمية التاريخية والسخط الثقافي على مدى نصف قرن.
اعتمد شبنغلر على تراث النقد الثقافي، مثل "روح الشعب" و"ذاكرة العِرق". كما اعتمد على نظرة القرن التاسع عشر العضوانية (Organicist) للتطوُّر التاريخي. وزعم أنه قد انتقل إلى مستوى جديد من التفكير التاريخي، وليس ما قدمه مجرد وصف للحضارات ككل، وإنما يتضمن التنبُّؤ بتطوُّرها وبمصيرها القادمَين، ويفسِّر ذلك بقوله: "في هذا الكتاب محاولة — للمرة الأولى — للتنبُّؤ بالتاريخ، بتحديد المصير المستقبلي للثقافة الوحيدة في زماننا وعلى كوكبنا، والتي هي في مرحلة الاكتمال، الحضارة الأوروبية الغربية الأميركية".
وحدَّد 8 حضارات عالمية متميّزة، هي: البابلية، المصرية، الصينية، الهندية، المكسيكية قبل "کولمبوس"، الكلاسيكية أو الإغريقية - الرومانية، الأوروبية الغربية، والمجوسية التي تضمُّ الثقافات العربية اليهودية والبيزنطية. وكانت نيته أن يكتب "تاريخاً عامّاً يُزيح فيه الحضارة الغربية لأول مرة إلى مكانٍ منزوٍ في قصة البشرية الكاملة".
وكان هدفه تقديم صورة جديدة للعالم "لا تعترف بأيِّ وضع متميز للثقافات الكلاسيكية أو الغربية ضدَّ ثقافات الهند وبابل ومصر" أو غيرها من الثقافات غير الأوروبية. وتضمن تاريخ شبنغلر كثيراً من إعادة التوزيع، عرقياً وثقافياً، فالحضارات غير الغربية كعوالم منفصلة ذات وجود دينامي، تُساهم في الصورة العامة للتاريخ، في العظمة التاريخية والقوة الكبيرة، وغالباً ما تتفوق على الثقافة الكلاسيكية والغرب. أعلن شبنغلر أن أوروبا وصلت إلى مرحلة الاحتضار.
والمصطلح الذي يستخدمه شبنغلر للثقافة الغربية الحديثة هو "الفاوستية". ومثل بطل "غوته"، فهي تنشد المعرفة والتغيير، ومنتوجها الرئيس "العلم" هو مجرد تقوية لتلك الإرادة الغربية التي لا تُقهر، والتي تعكسها لسائر العالم على نحوٍ آلي.
وكان شبنغلر شديدَ الإصرار على أنَّ النظرة الغربية إلى الزمان والطبيعة والتاريخ موجودة في تعارض مع الحقيقة العضوية. والنتيجة هي وهمٌ في الاتِّساع الضخم والتقدم بمرور الزمن. وبعد عام 1800، أي بعد أن دخل الغرب "الشتاء الباكر لحضارة كاملة"، بدأ توسُّعه الوحشي نحو الخارج عن طريق الرأسمالية بأسواقها دائمة التوسُّع، والعمليات التكنولوجية، وأخيراً عن طريق السيطرة والسيادة الإمبراطوريتين[1].
تقهقر الغرب
يُقر الكاتب اللبناني - الفرنسي، أمين معلوف، بتقهقر الغرب "الى أحلك حقباته السحيقة"[2]. وتعزز شعور الغرب هذا مع ولادة تنظيم "داعش" عام 2013، وهو يرى العالم متجهاً نحو التشتت والتشرذم والتفكك، وسط جو من القسوة والعنف، في بلادنا كما في أميركا الموصوفة بـ"الولايات غير المتحدة" بعبارته، وفي الاتحاد الأوروبي المتزعزع بسبب خروج بريطانيا منه (Brexit)، والذي جاءَ بعد الاستفتاء الذي حدث في 23 حزيران/يونيو 2016.
وفي زعم معلوف أن هذه النزعات ومثيلاتها مرتبطة ارتباطاً جلياً بما يسمى "روح العصر". ويبدو لمعلوف، على وجه الخصوص، أن العوامل التي تؤدي إلى التشتت تتزايد والعوامل التي تعزز اللحمة تتضاءل داخل كل مجتمع من المجتمعات، وعلى مستوى البشرية جمعاء. وما يفاقم هذه النزعة، في اعتقاده، أن العالم أصبح ممتلئاً بما يسميه "اللحمات الزائفة"، "التي تزعم، مثل الانتماء الديني، أنها تجمع شمل البشر، لكنها تؤدي، في الواقع، دوراً معاكساً" [3].
وينعى صاحب "صخرة طانيوس" (1993) أشكال التضامن البشرية، بسبب سيطرة المصالح الفردية والأنانية، ويَعُدّ أن الأيديولوجيا التي تسود وتحدد المعايير في عالمنا المعولم، حيث تنتشر الصورة والأدوات والأفكار، وكذلك الأمراض والحميات، بسرعة الضوء، "تقوم على الأنانية المقدسة للأفراد وعشائرهم، من أمم ومجموعات عرقية وكل الطوائف والجماعات"[4].
وعنده أن سيطرة الأنانيات الكوكبية تقود إلى الجنوح نحو اللاعقلانية، ونحو نوع من التفكير السحري الذي يؤشر على ارتباك عميق أمام الطابع المعقد للعالم، ويقول: "إننا نريد أن نعتقد، لأننا نشعر بأننا أصبحنا عاجزين عن إيجاد حلول ملائمة، وبأن تلك الحلول ستأتي من تلقاء نفسها، كما لو بفعل أعجوبة، وأنه يكفي أن نثق بيد السماء الخفية أو القدر"، وخشيته "أن ذلك لا يبشر بما يشيع الطمأنينة في العقود المقبلة"[5].
الغرب في أزمة
بنى المؤرخ وعالم الأنثروبولوجيا الفرنسي إيمانويل تود (1951)، المنتسب فكرياً إلى مدرسة الحوليّات الفرنسية الدارسة للمجتمعات في المدى الزمني الطويل، سمعة راسخة كونه "عرّافاً" من خلال التنبؤ بتفكك الاتحاد السوفياتي في الخريف الأخير من عام 1976، في عمله الشهير "السقوط النهائي".
ثم جدّد التفكير الأنثروبولوجي والتفكير السياسي من خلال النشر مع عالم الديموغرافيا هيرفي لو برا (Hervé Le Bras) "اختراع فرنسا" (1981)، وهو العمل الذي أصبح مرشداً إلى تحليل هياكل المجتمع الفرنسي، وتود متخصص بدراسة النماذج الأسرية.
في كتابه "بعد الامبراطورية" (2002)، قام تود بتحليل التدهور الاقتصادي الذي تعانيه الولايات المتحدة في وقت كان معظم الباحثين ينظرون إليها كونها قوة عظمى. كما نشر "من هو تشارلي؟" (2015)، بعد 4 أشهر من التظاهرات التي أعقبت الهجوم على الصحيفة الساخرة، وحاول إثبات أن تجمعات الناس في 10 و11 كانون الثاني/يناير كانت "زائفة" و"غارقة في المشاعر الطيبة".
وتود، الماركسي السابق، من النخبة القليلة التي حاولت النظر إلى الحرب الروسية - الأوكرانية بعين البحث الموضوعي والمعطيات الواقعية بعيداً عن العواطف.
وفي عام 2022، في أثناء محاضرة عامة، عبّر عن اقتناعه بأزمة المجتمع الغربي، وأظهرتها الحرب على نحو فاقع.
وهو رأى إلى سذاجة النخب الغربية التي صورت الروس أشراراً مالكين للقوة، وأن الأوكرانيين لا حول لهم ولا قوة. وبينت وقائع الحرب أن أوكرانيا تسلحت من الغرب بكثافة، وأن الدب الروسي لم يحسم المعركة ولم يكن وحشاً.
وفي إطار محاولة الفهم، يُقرّ تود بأن العملية الروسية الخاصة في 24 شباط/فبراير من عام 2022، كانت حرباً استباقية ضد التمدد الغربي. ويطرح، من موقعه كمؤرخ، عدة أمور، منها: أن الغرب هو من كان في وضع الهجوم، ويحوط هذا الغرب غموض يجب تبديده، وهذا بغرض معرفة الخاسر والرابح. وفي ظنه أن روسيا لن تنهار كما توقع الغرب، وهي ستربح الحرب. وعلى النخب طرح أسئلة كثيرة، من قبيل: المعلومات بشأن الاقتصاد الأميركي الحقيقية، وقدرة الاقتصادات الغربية على متابعة الحرب، والدوافع الكامنة وراء تسعير هذه الحرب وعدم إنهائها.
ووفق زعم تود، فإن الغرب والأطلسي هما من ذهب إلى حدود روسيا وشكل تهديداً لها، وهما من سعى للتوسع، ورغب في إدماج أوكرانيا في حلفه العسكري. والغرب من ادعى أن أوكرانيا ديمقراطية ليبرالية. ويقدر تود أن الغرب متنوع، وهو في وضع غير متوازن، يعاني أزمة هوية (مع تفشي المثلية ونظيراتها وقوننتها والاضطراب في تحديد الهوية الجنسية... إلخ). وأمام أزماته المتعددة، لا يجد الغرب مفراً من الهرب إلى الأمام... نحو الحرب.
في أحدث إصداراته بعنوان "هزيمة الغرب"[6]، يتفكر تود العالم انطلاقاً من الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، ويسخر من رؤى الغرب غير الدقيقة بشأن صلابة العالم الروسي وقوته. صحيح أن انفجار الاتحاد السوفياتي من الداخل حرّك التاريخ وأدخل روسيا في أزمة عميقة، وخلق فراغاً كونياً تاقت الولايات المتحدة إلى ملئه، لكن هذه الأخيرة نفسها بدت متأزّمة منذ عام 1980. وفي هذه الأثناء كانت أوروبا نفسها تذوي من داخلها.
وتود، المحاجّ ضد أميركا وسطوتها، من دون أن يكون من أنصار روسيا، إذ يتحدث كمراقب ومؤرخ يعاين الوقائع، وكان ربط بين صعود البروتستانتية وصعود الولايات المتحدة، مستفيداً من تحليلات عالمَي الاجتماع ماكس فيبر وإميل دوركهايم.
ويعتقد تود أن أميركا الحالية انتقلت من النيوليبرالية إلى ما يسميه "العدمية"، ولا يشغلها إلا العنف والحرب، بسبب ضعف الممارسات الدينية والاعتقادات الجمعية (بمعنى ما غياب الأخلاقيات)، وغياب المؤسسات البروتستانتية. ويقدّر العالم الفرنسي أن الولايات المتحدة تعاني عجزاً صناعياً، تبيّن له من قراءته للناتج القومي الأميركي، ثم العجز عن تكوين مهندسين أكفاء، وهذا أحد أسباب عجز العم سام عن تصنيع مزيد من الأسلحة لتزويد كييف بها.
وبحسبه، وقع الأميركيون في فخ أوكرانيا. فمنذ عام 2005، وبمشاركة الأوروبيين عام 2014، نجحوا في تهيئة الظروف لصعود قوة القومية الأوكرانية. ويبدو أن هذا يُظهر علامات حيوية كافية لوضع روسيا في مقام المهزوم. لكن الحقيقة هي أن واشنطن لم يكن لديها الوسائل المادية لتأجيج هذه الحرب. لماذا؟ أولاً، لأن العولمة جردت واشنطن من قدرتها الإنتاجية الصناعية. ووجد الأميركيون أنفسهم بالفعل في وضع لا يمكنهم الوفاء بالتزاماتهم بشأن تزويد أوكرانيا بالسلاح. وهذا، بغض النظر تماماً عما يقرره الكونغرس، لأنه إذا كان في إمكانه التصويت على إرسال الدولارات، فإن الحرب لا تُشن بالدولار، بل بالأسلحة، كما يقول تود. والنتيجة روسيا منيعة وغرب مهزوم.
[1] انظر: أزوالد شبنغلر، تدهور الحضارة الغربية (بيروت، دار مكتبة الحياة، 1964). ترجمة أحمد الشيباني. مقدمة الكاتب. والفصل السابع من كتاب: آرثر هيرمان، فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي (القاهرة، طبعة مؤسسة هنداوي، 2017). ترجمة طلعت الشايب.
[2] أمين معلوف، غرق الحضارات (بيروت، دار الفارابي، 2019). ترجمة نهلة بيضون. ص 236.