ما زال "حنظلة" يُدير ظهره

ishraq

الاشراق

الاشراق|متابعة 

أدار ناجي ظهر "حنظلة" للناس ووجهه للخلف، وكتّف يديه خلف ظهره احتجاجاً على النتائج السياسية للحرب التي فتحت الطريق إلى التسوية السلمية لمصر والعرب مع الكيان الصهيوني.

وصف مصطفى لطفي المنفلوطي "العظمة" في كتابه "النظرات" بقوله: "العظمة قوة روحية موهوبة غير مكتسبة، تملأ نفس صاحبها شعوراً بأنّه رجل غريب في نفسه ومزاج عقله ونزعات أفكاره وأساليب تفكيره... لا ينظر إلى شيء من الأشياء بعين غير عينه، ولا يسمع بأُذن غير أذنه، ولا يمشي في طريق غير الطريق التي مهدها بيده لنفسه، ولا يجعل لعقل من العقول... سلطاناً عليه... فترى جميع أعماله وآثاره غريبة بين الناس وأعمالهم: تُبهر العيون، وتُدهش الأنظار، وتملأ القلوب هيبةً وروعةً...". وكأنَّ المنفلوطي يصف بهذه الكلمات ناجي العلي ورسوماته الكاريكاتورية. 

ناجي العلي، رسام الكاريكاتور الفلسطيني الأكثر شهرة في الوطن العربي، مرت ذكرى اغتياله السنوية قبل أيام، وقد سبقت قتله سلسلة من التهديدات على خلفية رسوماته الساخرة الناقدة للانحراف في الواقع السياسي العربي المسؤول عن ضياع فلسطين وشرعنة الكيان الصهيوني، وفي الثورة الفلسطينية التي بدأت آنذاك تنحرف في اتجاه التخلّي عن هدف التحرير الكامل لأرض فلسطين ووسيلة الكفاح المُسلّح كطريق وحيد لتحرير فلسطين، فانتقد ناجي العلي برسوماته الكاريكاتورية الساخرة هذا الانحراف لدى الأنظمة العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وابتدع شخصية "حنظلة" ليكون شاهداً على ذلك، وجعله توقيعاً دائماً في كل رسوماته، ليكون ثورة داخل الثورة. 


"حنظلة" صورة طفل حافي القدمين رث الملابس، في العاشرة من عمره، رسمه ناجي العلي على صورته وقتما هاجر طفلاً مع أسرته من قريته الشجرة شمال فلسطين إلى لبنان، وُلد – كما يقول ناجي – يوم النكسة عام 1967، وأمه النكبة عام 1948، وظهر في رسوماته عام 1969 بشكله الطبيعي ووجهه للأمام، وبعد حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973 أدار ناجي ظهر "حنظلة" للناس ووجهه للخلف، وكتّف يديه خلف ظهره احتجاجاً على النتائج السياسية للحرب التي فتحت الطريق إلى التسوية السلمية لمصر والعرب مع الكيان الصهيوني وبدأت في اتفاقية "كامب ديفيد" عام 1978، والطريق الذي سلكته منظمة التحرير الفلسطينية بعد أن رقصت على أنغام "الشرعية الدولية"، وفتحت مزاد التنازلات ببرنامج النقاط العشر، فكانت تلك "الحنجلة الثورية" بداية سقوط الثوار في مستنقع أوسلو. 

ابتكر ناجي العلي اسم "حنظلة" من نبات الحنظل الصحراوي المُر ليرمز إلى مرارة واقع الشعب الفلسطيني المأساوي بعد النكبتين في مخيمات اللجوء وتحت الاحتلال، وجعله ينتمي نضالياً إلى الشعب الفلسطيني كله من دون تصنيفه فصائلياً؛ ليكون: صوت الشعب، وضمير الوطن، ونبض الفقراء، وبوصلة الثورة، وأيقونة الصمود والتحدي، ورمز الهوية الفلسطينية. وجعله ينتمي طبقياً إلى الكادحين والفقراء الذين انحاز لهم ناجي في كل الوطن العربي، فقال: "أنا لست مُحايداً، أنا منحاز لمن هم تحت... لمن ينامون في مصر بين قبور الموتى.. لمن يخرجون من حواري الخرطوم ليمزقوا بأيديهم سلاسلهم...".

وجعله ينتمي قومياً إلى العروبة، فقال على لسان حنظلة: "أنا مش فلسطيني، ومش أردني، ومش كويتي... ومش حدا، محسوبك عربي وبس". 

"حنظلة" البائس الفقير، أصبح توقيعاً دائماً وشاهداً ثابتاً في كل رسومات ناجي العلي الكاريكاتورية، الرسومات التي حوّل فيها الأحداث والمواقف المأساوية الجادة إلى هزلية مضحكة، كمخرج ساخر ينسجم مع المثل الشعبي "شر البلية ما يُضحك"؛ كطريقةٍ تعتمد على النقد الذاتي للثورة لتطهيرها وتصويبها، ولتجاوز حالة العجز والإخفاق فيها، فأعاد ناجي التعبير الفني بالرسم والتعليق على الواقع لإعادة تشكيله وفق فكره الثوري، وعاطفته الوطنية، فجاءت رسوماته: عميقة الفكرة، متقدة العاطفة، ساخرة المضمون، قوية التأثير، غنية الرموز، سريعة الفهم... فكان "حنظلة" فيها بمنزلة الضمير الشعبي وبوصلة الثورة، وليس "شاعر البلاط" أو "رسام القبيلة". 

ولأنَّ ناجي العلي رفض دور "رسام القبيلة" المرتزق الموالي لأصحاب القرار وأولي الأمر، كانت شخصية "حنظلة" على صورته يُدير ظهره للناس رفضاً واحتجاجاً، ليظل ثورة "داخل الثورة"، محاولاً تحذيرها لوقف انحرافها السياسي وهرولتها نحو سراب التسوية السلمية، ووهم الدولة المستقلة قبل التحرير، رافضاً قبول فكرة تقاسم فلسطين مع مغتصبها بحجة الواقعية السياسية، ومتهماً قيادة المنظمة بالاعتراف بـ "الشرعية الدولية" لتسافر كل البلاد باستثناء فلسطين، ولتسكن الفنادق بدلاً من الخنادق، ولتخفي كفي الاستسلام خلف أصبعي النصر. 

وظل "حنظلة" يدير ظهره لنا رفضاً واحتجاجاً على الفساد المالي في صفوف الثورة، فانتقد برسوماته الساخرة حالة الترف التي بدأت تظهر على بعض قادة الثورة، وظاهرة الاستزلام وشراء الذمم التي تمارسها قيادة المنظمة لترويض الانتهازيين المتسللين داخل صفوف الثورة، ورسم المسؤولين الفاسدين في صورة رجال قبيحين متكرشين همهم ملء بطونهم وقضاء لذاتهم وإنجاز مصالحهم على حساب الثورة ومن قوت البؤساء. 

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP