الأساطير المروّجة للعلمانية في منطقتنا... في ضوء التجربة التركية

ishraq

الاشراق

الاشراق|متابعة 

لم تنجح العلمانية التركية في خلق قيم اجتماعية جديدة عند فئة واسعة من الأتراك، إذ عملت الأتاتوركية على الانقلاب على كل القيم الثقافية والاجتماعية ذات الصلة بالدين.

لا شك في أن إشكالية "علمنة" الدول في منطقتنا هي من أبرز الإشكاليات المطروحة منذ عقود طويلة، ولطالما ارتفعت أصوات عديدة مطالبة باعتماد العلمانية على اعتبارها الحل السحري للمشكلات والأزمات، والمقدمة الضرورية لحسم أزمة الهوية التي لا تزال غير محسومة في عدد من دول المنطقة. ويذهب العلمانيون إلى حد اعتبار الخيار العلماني كفيلاً بإزالة كل التناقضات المانعة لقيام دولة القانون والمواطنة.

ولا شك في أن التجربة التركية هي من أكثر التجارب التي يمكن أن تشكل عاملاً حاسماً لمسار هذا النقاش الدائم لدى النخب العربية.

فتركيا هي البلد الأول في المنطقة الذي اعتمد العلمانية بشكل متطرف، وبعد مرور نحو مئة عام على تكريسها كأيديولوجيا مؤسسة للنظام التركي بعد سقوط السلطنة العثمانية، وعلى رغم محاولات عديدة للتخفيف من حدّتها، لا تزال العلمانية الأتاتوركية محور الحياة السياسية، تحضر في الفضاءات الإعلامية والسياسية والثقافية والفكرية، وفي خلفية الكثير من المحطات والاستحقاقات وآخرها الانتخابات الرئاسية التي تدور معركتها بين العلمانية الأتاتوركية من جهة وبين الإسلامية الإردوغانية، من جهة أخرى. 

وعليه، فإن الخوض في هذه القضية، وحسم ما إذا كان اعتماد دول المنطقة النظام العلماني سيشكل فرصة خلاص لشعوبها وأوطانها لا يمكن أن يستقيم من دون التطرق إلى تجربة العلمانية التركية، وتحديد مدى نجاحها في حل المشكلات وإنهاء الأزمات وحسم الهويات.

كما هو معلوم، فقد قاد مصطفى كمال أتاتورك مسيرة توجه تركيا إلى العلمانية مباشرة بعد انهيار السلطنة العثمانية. وهو اتسم بالحدة في هذا المسار، وعمل على استبعاد الإسلام كلياً عن معترك الحياة. وضع أتاتورك دستوراً علمانياً في العام 1923. قبل ذلك بعام، أقر المجلس الوطني التركي وثيقة أنقرة تحت عنوان التفريق بين الخلافة والسلطنة، وهذا ما عدّه المؤرخون التأسيس الفعلي للعلمانية التي حظيت بحماية عسكرية من الجيش الذي كان لا يتردد في التدخل كلما طرأ ما يمكن اعتباره تهديداً لها.

إلا أن الأحداث اللاحقة أثبتت أن كل هذا الغرس الثقافي الفكري والقيمي والسياسي والتشريعي المحمي من الجيش لم ينجح في حل التناقضات والأزمات التي تزخر بها الساحة التركية، وذلك ما تؤكده مجموعة معطيات:

أولاً: لم تنجح التجربة في إيجاد "دولة قانون" تضمن احترام العملية الديمقراطية. فقد ظل الجيش حاضراً للتدخل في وجه كل ما يعدّه تهديداً للعلمانية. هذا ما حصل بعد فوز الحزب الديمقراطي بزعامة عدنان مندريس في الانتخابات المتتالية في أعوام 1950 و1954 و1958، وقد عرفت هذه الفترة بمرحلة "إعادة الإحياء" للمظاهر الإسلامية.

فما كان من الجيش إلا أن تدخل عبر انقلاب عسكري عام 1960، ثم توالت الانقلابات العسكرية في الأعوام 1971 و1980 و2016.

يقول الباحث في الشؤون التركية الدكتور محمد نور الدين في كتابه "انقلابات تركيا": "كانت الانقلابات تحول دون تراكم التجربة الديمقراطية التي كانت تتكسر كل 10 سنوات أو أكثر لتبدأ من الصفر".

كما عملت الدولة العميقة الراعية للعلمانية على وضع قوانين انتخاب تمنع فئات واسعة من الشعب من دخول البرلمان.

ثانياً: لم تنجح العلمانية في حسم قضية السياسة الخارجية لتركيا، وظلت محل خلاف بين المكونات التركية، ما ولّد الكثير من الخلافات والاضطرابات الداخلية. تكفي الإشارة إلى انضمام تركيا إلى الحلف الأطلسي من جهة، والعلاقة مع الكيان الإسرائيلي من جهة ثانية، والاعتراض الواسع عليهما للدلالة على المأزق الذي رافق السياسة الخارجية التركية.

لقد عملت الأتاتوركية على جعل العلمانية مساراً سياسياً يقوم على تقليد الغرب، ما استدعى تلقائياً تحويل تركيا منذ خمسينيات القرن الماضي إلى جزء من المنظومة الغربية ضد الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، وصولاً إلى انضمامها إلى حلف الأطلسي عام 1949 وفي العام نفسه اعترفت تركيا بقيام "دولة" الكيان الإسرائيلي.

اعتراف سرعان ما تحوّل إلى علاقة استراتيجية وتحالف وثيق أسهبت بالحديث عن المعلن وغير المعلن فيه الكاتبة الإسرائيلية عفرا بنغيو في كتابها "الثورة التركية الهادئة وتأثيرها على إسرائيل".

للدلالة على عمق العلاقة وخصوصيتها، كشفت الكاتبة عن اتفاق عسكري سري بين الطرفين كان الأول من نوعه لـ"إسرائيل" مع أي دولة أخرى، وقد أعطت "إسرائيل" لهذا الاتفاق اسماً مرمزاً هو "ميركافا".

إلا أن هذه السياسة الأطلسية لم تكن محل رضى عند شريحة واسعة من الشعب التركي. تشير عفرا إلى ما تسمّيه التوجّه الأيديولوجي الجديد لشرائح واسعة من الشعب التركي الراغب في التوسع شرقاً على حساب الغرب والكيان الإسرائيلي، ثم جاء قرار البرلمان التركي عام 2003 الرافض لمشروع قرار يسمح بنشر قوات أميركية في تركيا ضمن التحضيرات الأميركية لغزو العراق. شكل القرار مفاجأة كبرى تعكس في جوهرها رفض الشعب التركي للسياسة الأتاتوركية الخارجية. 

ثالثاً: لم تنجح العلمانية في تحقيق العدالة الاجتماعية، فقد ركزت الحكومات العلمانية المتعاقبة على المدن الكبرى، وأهملت الريف التركي، واستفادت الحركات الإسلامية من هذا الخلل واستطاعت جذب الطبقات الفقيرة والوسطى، إضافة إلى احتضان الفلاحين، فشكّل هؤلاء القاعدة الشعبية للأحزاب الإسلامية التي أبدت اهتماماً كبيراً بالمسائل الخدمية والاقتصادية.

رابعاً: لم تنجح العلمانية في خلق قيم اجتماعية جديدة عند فئة واسعة من الأتراك، وعملت الأتاتوركية على الانقلاب على كل القيم الثقافية والاجتماعية ذات الصلة بالدين.

يقول محمد نور الدين في كتابه "تركيا القلقة" إن أتاتورك انطلق من "قناعة بأن الإسلام بما كان عليه خلال الفترة العثمانية كان السبب في التخلف الذي أصاب المجتمع، وأدى إلى انهيار الدولة، وأن الحضارة الأوروبية هي النموذج الذي يجب اتباعه".

فعمل بكل طاقته على تصفية كل ما يمت بصلة إلى الموروث الديني. ألغيت السلطنة والخلافة وكذلك المدارس الدينية، وتم تغيير الحرف العربي واستبداله بأحرف لاتينية، وتحويل القرآن الكريم إلى التركية ومنع رفع الأذان.

حاربت العلمانية الحجاب طوال عقود، ومنعت المحجبات من دخول الجامعات، ثم منعت النائبة المحجبة مروى قاوقجي من أداء اليمين، وطردت من البرلمان إلا أن كل هذه الإجراءات لم تنجح في إحداث القطيعة بين الشعب التركي والإسلام.

لقد تبين بعد عقود طويلة أن المكوّن الديني لا يزال حاضراً وبقوة. فقد ألغي في العام 2013 قانون منع ارتداء الحجاب في الجامعات، وطوال تلك السنوات أصر الأتراك على الانتخاب ضد الخيار العلماني بنسب كبيرة، وصولاً إلى العام 2003 عندما اختارت أكثريتهم حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي، كما اتخذ قرار تحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد في خطوة لها دلالاتها الكبيرة في علاقة الشعب التركي مع الإسلام.

خامساً: لم تنجح العلمانية في إيجاد حل للمشكلة الكردية. لقد عانى الكرد من حرمانهم حقوقهم الثقافية، وصولًا إلى حد إنكار وجود هوية كردية، وتعرضوا لمحاولات تصفية لوجودهم وتدمير ممنهج لقراهم، وعمليات تهجير جماعية على امتداد القرن العشرين. كما تعرضوا لمحاولات التتريك وإلغاء اللغة الكردية في المدارس، ومنعوا التحدث بها في الشوارع والمجالس.

مع قيام الدولة الأتاتوركية بدأت مرحلة يصفها الكرد بالمظلمة والمريرة لما تضمنته من تنكر لحقوقهم، وهم يعدّون أتاتورك العدو التاريخي للترك الذي كان يخشى بحسب الدراسات التاريخية من عودة الخلافة العثمانية من بوابة الكرد.

تؤكد هذه الوقائع إضافة إلى التمييز الذي يتعرض له العلويون على خلفية مذهبية أن الدولة العلمانية كما يقول الدكتور محمد نور الدين "لم تقف كما يفترض على مسافة واحدة من الجماعات الدينية".

لقد أدت العلمانية التركية كنتيجة لهذه الممارسات إلى "شعور فئات من الناس بالغبن" كما يقول آلان غريش في كتابه "الإسلام والجمهورية والعالم" الذي خصصه للحديث عن علاقة العلمانية الفرنسية بالإسلام والمسلمين في فرنسا.

لكن شعور فئات بالغبن ليس ناتجاً من ممارسات العلمانية التركية فحسب. فقد ارتكب الإسلاميون الأتراك بدورهم الكثير من الأخطاء في المجالات والفضاءات التي ذكرناها نفسها، ومن المؤكد أن النتائج المرتقبة للانتخابات الحالية ستكون لها دلالات كبيرة، وسيكون من الضروري قراءتها وتحليلها وصولاً إلى إعادة النظر من قبل المعنيين في مسار الإسلام السياسي التركي، ويكمن التحدي الأبرز في مقولة إردوغان نفسه الذي قال إن "حزبه ليس حزباً محلياً بل هو نموذج عالمي سيثبت للعالم أن الإسلام والديمقراطية يلتقيان ولا يتصارعان".

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP