رولان بارت وقلب الأسطورة: "ميلاد" القارئ و"موت" المؤلّف

ishraq

الاشراق

الاشراق|متابعة 

في الذكرى الـ43 لوفاته، لماذا يعدّ رولان بارت أمهر قارئ علامات ومتابع آثار العصر الأكثر تنويعاً في المناهج؟

ناقد خارج وفوق كلّ المدارس
بين ميلاد عاديّ، ككلّ البشر، ووفاة مأساويّة إثر حادثة سير (صدمه بشاحنة نقل صغيرة وهو ذاهب إلى مقرّ عمله في الكوليج دو فرانس) مسار أكاديميّ وكتابيّ يضجّ — إذ كان كلّ إصدار للرّجل، حتّى لو كان مقالاً صغيراً ومركّزاً، حدثاً ثقافياً فرنسياً، وأكاديميّاً عالميّاً — بابتكار مفاهيم وقراءات نصّيّة تراوحت بين البنيويّ والماركسيّ والأيقونيّ إلى الأسطوريّ والعلامتيّ (السيميولوجيّ)، إلى الخارج عن كلّ منهج سابق أو مدرسة قائمة، في إبداع شبه خالص على مستوى الآليّات ومناهج توليد المعنى.

ومفهوم النّصّ أساس كلّ اجتهاداته وكتاباته النّقدية، فقبل رولان بارت (1915 - 1980) كان النّصّ في صيغة مكتوبة حصراً وحسب. أمّا معه فصار النّصّ ليس فقط نسيجاً لغويّاً بشريّاً يخضع لعلاقات أفقية وعموديّة، كما في النّظريّات الكلاسيكيّة؛ وإنّما أيّ مجموع علامات قابلة للقراءة؛ وهكذا تمّ ابتكار مبحث علم جديد، أسهم فيه بارت بشكل أساسي ضمن مجموعة طليعيّة باريسيّة أطلقت على نفسها اسم "جماعة كما هو Groupe Tel quel"، تحلّقت حول مجلّة تحمل الاسم نفسه، وسلسلة منشورات لدى دار "غاليمار". صارت السيميولوجيا (مبحث قراءة العلامات)، بذلك، أمّ العلوم الإنسانيّة وبغية كلّ ناقد، أواخر الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي.

ابتكار قارّة جديدة: النّصّ، مكتوباً وملفوظاً ومرسوماً، في كلّ أشكاله
صار كلّ شيء قابلاً للقراءة، صار كلّ شيء نصّاً، ينبغي فقط تفكيكه إلى وحدات صغرى ومجموعة علائق. صار النّص تجميع حروف مرسومة وأصواتاً، لوحةً، فوتوغرافاً، خربشةً في جدار، سلوكاً اجتماعياً، لباساً، وجه ممثّل مسرحي أو سينمائيّ، شريطاً أو ملصقاً دعائيّين، مسرحيّةً، فيلماً.. انفتح، بذلك، النصّ على كل عالم العلامات، واتّسع مجال العلوم الاجتماعيّة والمتن القرائيّ لكلّ العلوم الإنسانيّة بشكل أرحب.

وتوالت تطبيقات بارت لهذه النّظريّة التي صيغت جماعياً، ولكنه رفدها، هو فرديّاً، بأهم وأضخم وأعمق التحاليل، حتّى احتسب النّاقد الأفضل ضمن الجماعة، إن لم يكن في كامل تاريخ النقد الأدبي الفرنسيّ.

هكذا توالت المؤلفات الّتي رجّت مناهج القراءة وخلخلت التقاليد المدرسيّة الفرنسية في دراسة النصوص والمؤلّفات وأعطت للصحافة الثقافيّة مادّةً خصبةً للمتابعة وفتح السّجالات الفكرية بين أنصار التجديد (بنيويّون، بنيويّون تكوينيون، ماركسيون غير عقائديّين، شكلانيّون، مخرجو الموجة الجديدة من السينما الفرنسيّة) والمدارس التقليديّة الارتكاسية في تمسّكها بما أرسته المدرسة الفرنسيّة منذ ثورات وحراكات أوائل القرن الـ 19، والتي باتت قاصرةً عن مواكبة الفورة الفكريّة الباريسيّة وتراكمات الحركات الطليعيّة الإبداعيّة.

كلّ ما في العالم علامة قابلة للقراءات والتّآويل
ربّما كان أشمل كتاب لبارت، من حيث تنويع مناهج القراءة والمتون وزوايا النّظر، كتابه "إمبراطوريّة العلامات"، الذي صدر في العام 1970، في طبعة فخمة من حيث قطعها الورقي المربّع والكبير، وغناها بالصّور الفوتوغرافيّة واللوحات التشكيليّة؛ وهو كتاب ركّز فيه بارت على قراءة جلّ العلامات التي تميّز الثقافة اليابانيّة، والتي عاينها خلال رحلة له إلى هناك، مستكشفاً عوالم المسرح الياباني (النّو والكابوكي ووجوه الممثّلين المسرحيين)، والشعر (الهايكو)، وفنّ الخطّ والموسيقى والملاهي والمراقص سواء كانت تقليديّة أو ذات طابع غربيّ، كفضاءات مترعة بالعلامات التي ينبغي استنطاقها كي تجود بمكنونات دلالاتها العميقة.

وكانت فرادة بارت في هذا الكتاب تناول العلامات اليابانيّة بالتّحليل من دون إغراق نصّه، لا بالإحالات النظريّة المبهمة، ولا بالاصطلاحات الرّنانة، التي قد تحيد عن حيثيات موضوع التحليل؛ فهكذا مثلاً تناول أشهر وأوجز شكل شعريّ في العالم. شكل يعزو الجميع ابتكاره إلى اليابانيّين ألا وهو قصيدة الهايكو:

الهايكو وانتهاك المعنى

 

للهايكو تلك الخاصّيّة الإيهاميّة بعض الشّيء، وهي أنّنا نتخيّل دوماً قدرتنا على صناعة بعضها بأنفسنا وبكلّ سهولة. نقول في دخيلتنا: وهل ثمّة ما هو أسهل منالاً من كتابة عفويّة كهذه [لبوسون]: "إنّه المساء، الخريف، أفكّر فقط في والديّ".

 

الهايكو مثير للرّغبات: فكم من القرّاء الغربيّين لم يحلموا بالتّنزّه في الحياة، متناولين كرّاسة في اليد، مدوّنين هنا وهناك بعض "الانطباعات"، والّتي قد تضمن وجازتها كمالها، والّتي قد تقرّ بساطتها عمقها [بمقتضى أسطورة مزدوجة؛ لها شقّ كلاسيكيّ، يجعل من الاقتضاب دليلاً على القيمة الفنّيّة؛ وشقّ رومنطيقيّ، يعطي قسطاً من الصّدق للارتجال].

 

مع كونه جليّاً، لا يسعى الهايكو لقول شيء، وبهذا الشّرط المزدوج يبدو موهوباً للمعنى، بطريقة جاهزة بصورة خاصّة، بطريقة خدومة، على شاكلة مضيف مهذّب يسمح لنا بالإقامة لديه على الرّحب والسّعة؛ متصرّفين بحسب أهوائنا، وقيمنا ورموزنا؛ "غياب" الهايكو [مثلما نتحدّث عن روح خياليّة أو عن ملاك على سفر] يستدعي الإغواء، الانتهاك، في كلمة، الاشتهاء الأكبر، اشتهاء المعنى.

 

هذا المعنى الثّمين، الحيويّ، المرغوب فيه كالنّصيب [حظّاً ومالاً]، يبدو أنّ الهايكو – مخلّصاً من الإكراهات العروضيّة [في التّرجمات الّتي نتوفّر عليها] – يمنحنا إيّاه بوفرة، رخيصاً وتحت الطّلب؛ كأنّ الرّمز، والاستعارة والعبرة في الهايكو لا تكلّف تقريباً شيئاً: بالكاد بعض كلمات، صورة، شعور – ثمّة حيث تتطلّب آدابنا الغربيّة، في الأحوال العاديّة، قصيدة، إسهاباً أو [في الأجناس الأدبيّة القصيرة] فكرة منمّقة، باختصار صنعة بلاغيّة طويلة.

 

بالتّالي، يبدو أنّ الهايكو يمنح الغرب حقوقاً تمنعها عنه آدابه، وتسهيلات تساومه عليها.

 

الهايكو يقول إنّ لنا حقّاً في أن نكون تافهين، موجزين، عاديّين؛ احصروا ما ترونه، ما تحسّون به في أفق دقيق من الكلمات، وستكونون مثيرين للاهتمام؛ لكم الحقّ في أن تستندوا بأنفسكم [وانطلاقاً من أنفسكم] إلى وجاهتكم الخاصّة بكم؛ ساعتها، وكيفما كانت جملتكم، فإنّها ستنطق بالعبرة، ستحرّر الرّمز، ستكونون عميقين؛ بتكاليف أقلّ، ستكون كتابتكم ممتلئة.

قتل المؤلّف لقتل النزعة السوسيولوجيّة البئيسة
ثاني المفاهيم الّتي يقوم عليها الصّرح النقديّ البارتيّ، بعد توسيع مفهوم النّصّ وابتكار آليّات جديدة لقراءاته في مستويات ومن زوايا متعدّدة، هو مفهوم موت المؤلّف؛ الذي أراد به ناقدنا تخليص الدراسات الأدبيّة (والعلوم الإنسانيّة بشكل شامل) من النزعة السوسيولوجيّة التي تسقط حياة الكتّاب والفنّانين، سياقاتهم التّاريخيّة، إسقاطاً ميكانيكيّاً مجحفاً على مؤلّفاتهم وإبداعاتهم، إسقاطاً كثيراً ما يهمل الحمولة الجماليّة للنّصوص والثّورة التي تحدثها على مستوى الشكل والأسلوب، وبالتّالي على ذهن القارئ والمشاهد، وبالتّالي على ذهن الجماعات.

بهذا المفهوم، صار شعار النّقّاد الحديثين: "النّصّ، كلّ النّصّ، ولا شيء غير النّصّ". يعرّف بارت مفهومه لموت المؤلّف كما يلي: "لم يهتمّ النّقد التّقليديّ أبداً بالقارئ؛ بالنّسبة له، ما من إنسان آخر في الأدب إلّا ذاك الّذي يكتب. لقد بدأنا الآن نستفيق من غفلة هذه الجمل المقلوبة المعنى، الّتي يجرّم فيها المجتمع السّويّ ببراعة لمصلحة ما يضعه بالضّبط على الهامش، ما يتجاهله، يخنقه أو يحطّمه؛ صرنا نعرف الآن — كي نعيد للكتابة مستقبلها — أنّه يتوجّب علينا قلب الأسطورة: ميلاد القارئ ينبغي أن يجازى بموت المؤلّف". ["هسيس اللّغة"، 1984].

بارت والثّقافة العربيّة: بارت مقيماً بين ظهرانينا ومؤثّراً في مناهجنا النّقديّة
الإشارات إلى الثّقافة العربيّة قليلة ضمنيّاً في متن كتب بارت، فيما خلا شذرة من كتابه "رولان بارت بقلم رولان بارت" (1975):

أبو نواس والاستعارة

 

ليست الرّغبة ذات موضوع. عندما تنظر إحدى القيان لأبي نواس، فهو يقرأ في عينيها لا الرّغبة في الدّنانير، لكن الرّغبة فحسب — ليتأثّر لذلك. فلتكن هذه أمثولة لكلّ علم يدرس تغيّر الحال: ما همّت الحاسّة الهائمة، ما همّ حدّا المسير: وحده يهمّ ويؤسّس الاستعارة الهيام بذاته.

وأيضاً في كتاب له، صدر بعد وفاته، وهو عبارة عن يوميات كتبها خلال تدريسه في جامعة محمد الخامس بالرباط، خلال الموسم الجامعيّ 1969-1970، وخلال زياراته التّاليّة لهذه السّنة مدعواً إلى لقاءات ثقافيّة وندوات دراسيّة نقرأ:

عابرات

سوق مرّاكش: ورود قرويّة في أكوام النّعناع.

**

مزارع هرم بجلّابيّة [بلون الخرق العميق] يحمل في هيئة حمّالة على الكتف جديلة ضخمة من حبّات البصل الكبيرة ذات اللّون الورديّ النّحاسي.

**

نزل نادل الخمّارة، في إحدى المحطّات، ليقطف زهرة إبرة الرّاعي الحمراء، وضعها في كأس ماء، بين عصّارة البنّ والخزنة القذرة حيث أهمل فناجين ومحرمات متّسخة.

إن كان للنّقد المغربي من ريادة عربيّاً، إضافةً للإنتاج التّرجميّ، فبفضل الجمع بين قراءة تراثنا العربيّ القديم وإنتاجاتنا المعاصرة بمناهج وآليات تحليل تراثيّة ممزوجةً بأخرى غربيّة، جلّها فرنسي، ولبارت ضمن الحصّة الفرنسيّة نصيب الأسد.

تكفي فقط الإشارة إلى أنّ ألمع قرّاء تراثنا العربيّ راهناً، عبد الفتاح كيليطو، كان زميلاً لبارت في جامعة محمد الخامس بالرّباط، ومن الأكيد أنّه "تتلمذ" على نتاجه النّقدي، الذي ساعده في فكّ مغالق "ألف ليلة وليلة"، و"كليلة ودمنة"، والتّوحيدي وغيرهم من خالدينا الأموات والأحياء.

* مصادر النّصوص (الطّبعة الفرنسيّة): "رولان بارت بقلم رولان بارت" (1975)؛ "لذّة النّصّ" (1973)؛ "عابرات" (1987)؛ "إمبراطوريّة العلامات" (1970)، "هسيس اللّغة" (1984).

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP