جرائم "جيش" الاحتلال بين تشريع الحصانة الداخلية وغياب المُلاحقة الخارجية

ishraq

الاشراق

الاشراق|متابعة 

نصّ أحد بنود الاتفاقيّة الائتلافية بين الليكود وحزب "القوة اليهودية" الذي يتزعمه بن غفير على سن قانون بشأن المسؤولية القانونية لجنود "الجيش" الإسرائيلي وأفراد قوات الأمن أثناء أداء مهامهم التنفيذية. 

بالفعل، طُرِح مشروع قانون "حصانة قوات الأمن" على طاولة اللجنة الوزارية للشؤون التشريعية في كنيست الاحتلال الأسبوع الماضي، إلا أنَّ مُعارضة المستشارة القانونية للحكومة غالي بهراف ميارا أدت إلى تأجيل مناقشته مدة أسبوع آخر لإجراء بعض التعديلات عليه وعَرضِه على خبير في القانون الدولي.

وفقاً لمشروع القانون، "لن يتحمل" أي فرد من قوى الأمن الإسرائيلي، على اختلاف مسمياتهم ووظائفهم، أي مسؤولية جنائية، ولن يتم التحقيق معهم كمشتبه فيهم، وسيكونون محصَنين من أي إجراءٍ قانوني، بما فيها الدعاوى المدنية، في ما يتعلق بأفعالهم أو بالأوامر التي أصدروها أثناء أداء مهامهم في التدريب أو في نشاطٍ ضد "عملٍ إرهابي"، مع تركيز المذكرات التفسيرية لمشروع القانون على أنشطة "القتال ومكافحة الإرهاب" حصراً.


طوّرت "إسرائيل" على مر السنين سلسلة من السياسات وأدوات التنفيذ التي تم تكييفها مع الظروف التي تعمل فيها "قوات أمنها" المختلفة. وكقاعدة عامة، لا يتم فتح تحقيق جنائي في ملابسات حادث ما إلا إذا كان هناك "اشتباهٌ معقول" في ارتكاب جريمة. وفي هذه الحالة، يستند "الاشتباه" إلى ظروف الحادثة والإطار القانوني المعمول به.

على سبيل المثال، تكون الظروف التي يتم فيها فتح تحقيق جنائي في سياق "نشاط قتالي" محدودة أكثر بكثير من الظروف التي يتم فيها فتح تحقيق جنائي في سياق نشاط لإنفاذ القانون.

تقع مسؤولية اتخاذ قرارٍ بفتح تحقيق على عاتق المدعي العام العسكري في حال وجود "أساس معقول" للاشتباه في انتهاك أحد الجنود للقانون. وعادةً ما ينتظر المدعي العام حتى انتهاء التحقيق الميداني لاتخاذ قرارٍ بشأن فتح تحقيق بناءً على نتائجه.

في الواقع، يوجد اليوم بالفعل حصانة شبه كاملة، وإن كانت غير مُشرعنة بقانون، لقوات الاحتلال التي ترتكب جرائمها بحق الفلسطينيين أثناء العمليات العسكرية وغيرها. على مر السنين، هدفت الآليات المختلفة التي طورتها "إسرائيل" إلى تحقيق ما تسمّيه "التوازن بين التحديات التي تُميز النشاط العملياتي وأهمية واجب التحقيق في حالات الاستخدام غير القانوني أو غير اللائق للقوة" من قبل قواتها.

إذاً، مشكلة القانون المطروح، كغيره من مشاريع القوانين "الشعبوية" التي يطرحها اليمين القومي المتطرف، أنها تدّعي توفير حل لمشكلة غير قائمة أصلاً، وربما تُسبب ضرراً كبيراً لأولئك الذين تدعي سعيها لحمايتهم.

لا توجد مشكلة حقاً، لأنه يتم اليوم فحص المخالفات في الغالبية العظمى من القضايا في إطار "التحقيقات الميدانية العسكرية"، ولم يصل أيٌ منها إلى درجة "التحقيقات الجنائية"، فالمُحاكمة هي الاستثناء الدائم، وبالنسبة إلى "إسرائيل"، فإنّ غالبية جنودها، إن لم نقُل كلهم، "يتّبعون الأوامر ولا يرتكبون أفعالاً غير عادية ومتطرفة"، فلا داعي للخوف.

تستند قوانين الحرب وأوامر "جيش" الاحتلال الإسرائيلي إلى الادعاء بإدراك تعقيد أوضاع القتال والنشاط العملياتي. وقد أثبت النظام القانوني، ومكتب المدعي العسكري، ومكتب المدعي العام "للدولة"، والمستشارة القانونية للحكومة، والمحاكم العسكرية، بل "ومحكمة العدل العليا"، مراراً وتكراراً، أنهم "يتفهمون تماماً الواقع المُعقد وأهمية الحفاظ على حرية عمل جيش الدفاع الإسرائيلي في حربه ضد العدو".

وبخلاف ما يحاول بن غفير إشاعته، ليس هناك تناقض بين الأمرين، ونكاد لا نجد، منذ نشأة هذا الكيان، حالة مقاضاةٍ واحدة لرجال أمن بسبب نشاطٍ عملياتي أو قتلٍ لفلسطيني حتى الآن.

هذه الآليات هي التي وفّرت لجنود "جيش" الاحتلال إطلاق أيديهم داخلياً ضد الفلسطينيين، وأيضاً التغطية الخارجية عليهم في المحافل القضائية الدولية؛ ففي تموز/يوليو عام 2002، استشهد 15 فلسطينياً في عملية اغتيال قائد الجناح العسكري لحركة حماس في قطاع غزة صلاح شحادة عندما قصفت طائرات تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي مبنى كان يقيم فيه.

وبعد تقديم التماس إلى المحكمة العليا في إسبانيا طُلب فيه فتح تحقيق جنائي في المتورطين في الحادثة، رفضت المحكمة الإسبانية الالتماس، متذرّعةً "بأن التحقيق الذي أجراه الجيش الإسرائيلي والخطوات التي اتخذها نظام العدالة الإسرائيلي بعد الحادثة كانت شاملة ومهنية، وبالتالي لا يوجد مجال للتدخل في الأمر".

وكذلك الحال بعد عملية "الرصاص المصبوب" التي نفذها "جيش" الاحتلال ضد قطاع غزة في كانون الأول/ديسمبر 2008. ورغم أنَّ فريق التفتيش التابع للأمم المتحدة برئاسة ريتشارد غولدستون أقر في استنتاجاته أن "إسرائيل" هاجمت المنشآت المدنية المحمية بموجب القانون الدولي، فإن رئيسة لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في حينه، ماري ديفيس، صرّحت بعد تلقي التقرير أنَّ "إسرائيل استثمرت العديد من الموارد، وبذلت جهوداً كبيرة للتحقيق في مئات الحالات التي نشأت فيها شكوك في تصرف غير لائق من قبل قواتها في العملية". وبحسب مصادر أمنية إسرائيلية، فإن هذا لم يكن ليحدث لولا وجود "نظام قضائي عسكري ومدني قوي ومستقل".

أسباب معارضة قانون "الحصانة"
ونعود إلى التساؤل: ما الذي يدفع المستشارة القانونية لحكومة الاحتلال وكثير من القيادات الأمنية والسياسية إلى معارضة هذا التشريع، إن كان الغرض منه إحداث نوع من ترتيبات الحصانة لجنود "جيش" الاحتلال؟

يستند هؤلاء في معارضتهم إلى أنَّ هذه الترتيبات قائمة فعلياً، وأن هذا التشريع غير صالح، لأنه يسمح بانتهاك القانون ويُعرّض جنود "جيش" الاحتلال وقادتهم للمحاكمة أمام محاكم قانونية أجنبية. وبحسب قولهم، "فالحماية والتحفظات التي يوفرها القانون الجنائي الإسرائيلي هي الإجابة الصحيحة على الغرض من مشروع قانون الحصانة، فلسنا بحاجة إليه". 

يخشى هؤلاء أن يتعارض التشريع الذي يمنح أفراد الأجهزة الأمنية "ترخيصاً" بارتكاب مخالفات من دون خوف من التحقيق أو المقاضاة مع "سيادة القانون"، ولن يكون من الممكن تطبيق عقوبات على المخالفات القانونية وانتهاكات حقوق الإنسان التي يرتكبها أولئك الذين يرتدون الزي الرسمي، مثل انتهاك حرية التعبير وإيذاء المتظاهرين أثناء تفريقهم.

إن الحصانة الواسعة، مثل تلك المقترحة في مشروع القانون، "تُقوّض الواجب الأساسي لكل مواطن في طاعة القانون، ومن المهم أن يتم الحفاظ على هذا الواجب أيضاً في ما يتعلق بقوات الأمن التي تتمثل مهمتها في تطبيق القانون وتمثيله أمام المواطن".

يمكن، وفقاً لهؤلاء، أن يشكّل الاقتراح حافزاً "لأفراد الأمن" لكسر القواعد المنصوص عليها في أحكام القانون والإجراءات، ويعني في الواقع إعطاءهم الفرصة للتصرف بشكل غير قانوني.

نتيجةً لما سبق، يمكن التقدير، مع اعتماد مشروع القانون، أن ثقة كل من يتعامل مع "قوات الأمن" من عامة الناس ستتضرر بشدّة، وهذا كله طبعاً في السياق الإسرائيلي "اليهودي" على وجه التحديد.

أما المأخذ الآخر على القانون، فهو أنه يأخذ بعين الاعتبار العواقب الوخيمة الإضافية على الصعيد الدولي، فالحصانة المطلقة، في حال تشريعها، من الممكن أن تؤدي إلى تدخل المحاكم القانونية الأجنبية مثل المحكمة الجنائية الدولية وسلطات التحقيق والقضاء في الدول الأجنبية، التي لا يمكن لمشروع القانون منحهم حصانةً منها، والتي لا تتدخل حالياً بسبب هيئات التحقيق الإسرائيلية التي تتمثل مهمتها في التحقيق في الحوادث.

وتتلقى "إسرائيل" بالفعل انتقادات من دول ومنظمات دولية ومنظمات غير حكومية، لكون نظامها القانوني لا يفي "في الممارسة" بالمعايير التي حددها القانون الدولي، ومن المتوقع في حال إقرار مشروع القانون أن يزداد هذا النقد، وأن يفرض على "إسرائيل" ثمناً سياسياً.

يعتمد الدفاع الإسرائيلي عن هذه الاتهامات على الادعاء بأنهم يُحققون بأنفسهم "بأمانة وجدية"، وأن لديهم "نظاماً قضائياً موثوقاً مستقلاً ومهنياً"، ومشروع القانون المقترح، الذي يمنع التحقيقات الداخلية، ينفي صراحة هذا الادعاء. 

يرتكز المجتمع الدولي على أن "الدولة" تقاضي مواطنيها إذا انتهكوا القانون، وبالتالي فإن تدخل المحكمة أو المحاكم الأجنبية الأخرى في مثل هذه القضايا ليس ضرورياً، لكن في حال عدم استعداد "دولة ما" للتحقيق في الجرائم التي يُزعَمُ ارتكابها من قبل قوات أمنها أو عدم قدرتها على ذلك، فيحق لمحكمة لاهاي التدخل وبدء الإجراءات القانونية كجزء مما يُعرف باسم "مبدأ التكامل".

من هذا المنطلق، وخلافاً للغرض منه، قد يضر القانون فعلياً بأفراد "قوى الأمن" من خلال تعريضهم لإجراءات جنائية أو مدنية في الخارج، بحيث تصدر بحقهم مذكرات توقيف في جميع أنحاء العالم.

ومرة أخرى نعود إلى بن غفير الذي يرى أن "إسرائيل" تحتاج إلى سن هذا القانون، وهو، بحسب تعبيره، "واجبٌ أخلاقي تجاه جنودنا الذين نرسلهم إلى المعركة للقتال من أجلنا وحماية أرواحنا". 

تستند هذه الدعوة إلى الادعاء بأن جنود "جيش" الاحتلال "مُقيّدون" في أداء مهامهم خوفاً من التهديد بإصدار أحكام بحقهم"، وخصوصاً أنهم يذهبون إلى مهام "مُعقدة تُهدد حياتهم تحت الضغط، فليس من العدل تعريضهم لاحقاً لتحقيقات جنائية وملاحقات"!

هذا هو التفسير الذي يتكئ عليه بن غفير: "الواجب الأخلاقي تجاه الجنود"، لكن من الواضح بالنسبة إليه وإلى مساندي القانون أنّهم يهتمون فقط بأن تظهر صورتهم "كمدافعين" عن الجنود ضد نظام "العدالة الإسرائيلي" "المفترس".

وفي المحصلة، يلتقي الطرفان، "اليبرالي" المعارض للقانون واليميني الفاشي المساند له، على ضرورة وجود حصانة لجنودهم ما دام الأمر يتعلق بالدم الفلسطيني، لكنهم يختلفون في شكل هذه الحصانة فقط، إذا ما كانت "مُطبقة من دون تشريع" أم "مُعلَنة مُشرعنة".

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP