جورج طرابيشي.. و"الجرح" الفكري العميق

ishraq

الاشراق

الاشراق|متابعة 

تقلّب بين تيارات فكرية وسياسية، وعانى بفعل كونه مسيحياً يناقش قضايا إسلامية.. من هو جورج طرابيشي؟

انطلاقاً من همومه الفكرية وتوجُّسه الدائم، نراه انتقل عبر أكثر من محطة بدأها بالفكر القومي والانتساب إلى "حزب البعث"، ثم معارضته له بعد تسلمه السلطة، الأمر الذي أدخله السجن. وبعد "فتوحاته" في ترجمة الوجودية أصبح وجودياً، ومال أيضاً إلى الماركسية، وكتب عدداً من المؤلفات فيها، لكنه بعد كل ذلك انتهى إلى تبني نزعة نقدية جذرية، يرى أنها الموقف الوحيد الذي يمكن أن يصدر عنه المفكر، ولا سيما في الوضع العربي الذي يتجاذبه قطبان: "الرؤية المؤمثلة للماضي والرؤية المؤدلجة للحاضر".

هذا الموقف الذي جسَّده في آخر 30 عاماً من حياته، جعله يُراجع كثيراً من أفكاره، ويُمحِّص حتى في ترجماته من اللغة الفرنسية لكتب ألمانية، وخصوصاً المتعلقة بالتحليل النفسي.


ولعلّ أبرز دوافعه وراء ذلك، وكان بمثابة النار التي أشعلت فتيل المراجعات، هو الخطأ الفادح الذي ارتكبه من كان يَعُدّه أستاذه، محمد عابد الجابري، في انتقاده إخوان الصفا واعتبارهم المسؤولين الحقيقيين عن استقالة العقل في الإسلام، لتبدأ رحلة طرابيشي مع التدقيق في أدق التفاصيل والشواهد التي تضمنها كتاب "نقد العقل العربي" للجابري، فأعاد قراءة التراث اليوناني والتراث الأوروبي الفلسفي والتراث العربي الإسلامي في علم الكلام والفقه والتصوف واللغة، واستغرق منه ذلك ربع قرن، أصدر خلالها 5 كتب تحت مسمى "نقد نقد العقل العربي"، عارض فيها رؤية الجابري مفَنِّداً إياها بالتفصيل المملّ.

كانت نظرية الجابري تقول إن العقل العربي الإسلامي لم يتخلّف ولم يغرب ويأفل ولم يستقل إلا نتيجة غزوة خارجية جاءته من رياح الهرمسية والغنوصية والأفلاطونية المشرقية، بينما نظرية طرابيشي المضادة ترى أنه لا يمكن لأي عقل أن يُغْزى وأن يُجْبَر على الإقالة من خارجه إذا لم تكن له القابلية الذاتية، فالعقل عندما يستقيل فإنما يستقيل نتيجة الآليات الداخلية أولاً.

أي أن "الجرح الفكري العميق"، كما يصفه طرابيشي، والناجم عن الجابري جعله يعيد بناء ثقافته من جديد كي لا يصاب بخيبة أمل مرة أخرى، وحتى لا يقع ضحية أي تشويه فكري آخر. وبات يحاول إيجاد الأجوبة الصائبة عن كثير من الأسئلة، من دون مواربة، وبتحليل منطقي مستند إلى معرفة موسوعية، أتاحت له مثلاً معارضة فكرة، مفادها أن العلمانية هي مجرد مشروع غربي لا يصلح للإسلام، إذ بيَّن أن العلمانية في التاريخ الإسلامي أعمق جذوراً مما نتصور وأعمق وجوداً حتى مما هي في المسيحية.

ولأن "قوة أي فكر إنما هي قدرته على تجاوز نفسه كي لا يتحول إلى وثنية جديدة"، كما يقول طرابيشي، لذا كان دائم البحث عن إمكان ذاك التجاوز وآلياته ومقوماته المعرفية، وخصوصاً أن رؤيته لواقعنا العربي اليوم تتمحور حول أننا مهددون بالعودة نحو عصور وسطى جديدة بفعل المد الأصولي. وهو ما دفعه، في إثر اندلاع الانتفاضات في البلدان العربية، إلى أن ينتقل من تفاؤله في بدايتها باعتبارها ثورات كبرى إلى خيبته الكبرى منها، فـ"الربيع العربي لم يفتح من أبواب أخرى غير أبواب الجحيم والردّة إلى ما قبل الحداثة المأمولة، والغرق من جديد في مستنقع  القرون الوسطى الصليبية/ الهلالية"، كما كتب في أحد مقالاته.

موت صغير
ويبيِّن في مقال آخر أن "ما يحدث في بلادي هو حرب أهليّة محمولة على غزو هولاكي جديد"، ليتوقف بعدها عن الكتابة، معبّراً عن خشيته وخوفه مما آلت إليه حال سوريا. وبشأن ذلك قال: "إن شللي عن الكتابة، أنا الذي لم أفعل شيئاً آخر في حياتي سوى أن أكتب، هو بمثابة موت. ولكنه يبقى على كل حال موتاً صغيراً على هامش ما قد يكونه الموت الكبير الذي هو موت الوطن".

مثل هذا الموقف وغيره أثارا بشأنه وبشأن مؤلفاته كثيراً من المُعارضات، منها كونه مسيحياً يناقش قضايا إسلامية، ومن ذلك القصة التي روتها زوجته، الروائية والمترجمة هنرييت عبودي، في كتابها "أيامي مع جورج طرابيشي"، حين انتصر الباحث المغربي سعيد ناشيد لآراء طرابيشي في مواجهة الجابري ضمن أطروحته للدكتوراه، فما كان من أستاذه المشرف إلّا أن يقول له بالحرف الواحد "كيف تنتصر لمفكر يدعى جورج ضد مفكر يدعى محمد؟".

النضال بالكلمة
هناك من وقف ضدّ طرابيشي في آرائه تجاه المرأة، وموضوعة الشرف الجنسي، إذ كان يرى صاحب "أنثى ضد الأنوثة" أن الموقف تجاهها في مجتمعاتنا يحدد الموقف تجاه العالم بأسره، وهو ما دفعه إلى النضال بواسطة الكلمة من أجل تغيير العقليات، وتغيير البنية الداخلية للعقل، وليس فقط البنية السطحية السياسية أو الأيديولوجية، ولا سيما بعد أن وُوْجِهَ بنظرة ذكورية تجعل المرأة في مرتبة أدنى من الرجل، أو تضعها عدواً له تدفعه إلى الخوف من الخصاء والمازوشية، وهو ما يتردد في صدى نقد صاحب "شرق وغرب.. رجولة وأنوثة" لكثير من الأعمال الأدبية العربية لتوفيق الحكيم وحنا مينا وغيرهما.

أمّا على صعيد الترجمة، فتلقى طرابيشي كثيراً من الانتقادات والملاحظات، ومنها ما كتبه المفكر التونسي العفيف الأخضر في الأخطاء التي وردت في ترجمة "البيان الشيوعي" و"المعجم الفلسفي"، ومنه نقتبس أن "المشكلة في بعض ترجمات طرابيشي أنها كانت ترجمات عن ترجمات (أي ترجمة عربيّة عن ترجمة فرنسيّة، عن أصل ألماني أو إنكليزي أو روسي). ولغة طرابيشي العربيّة أخّاذة وانسيابيّة لكن ترجمته في "المعجم الفلسفي" لا تفي بالغرض، كما أنه اعتمد في المواد عن فلاسفة عرب على ترجمات غربيّة غير حديثة".

وهناك من انتقد كتبه المُسَخَّرة لنقد نقد العقل العربي، وقال إنها "لم تتضمن جهداً فكرياً كافياً لتحديد مفهوم العقل في الفكر العربي، على رغم امتداد الفترة الزمنية التي تناولها مشروع نقد النقد الذي انبرى له، فراح يبحث عن إشكاليات الإطار المرجعي للعقل العربي في عصر التدوين، وعن إشكالية اللغة والبنية اللاشعورية لهذا العقل، فغاب مع هذا مفهوم العقل، وتمت مصادرته على حساب إشكاليات ثقافية عامة، غاص فيها طرابيشي كي يرد على الجابري، ويثبت له صفة العقل للعقل العربي" كما يقول الكاتب والناقد السوري عمر كوش.

لكن، مع جميع هذه الانتقادات وغيرها، لم يتوقف صاحب "عقدة أوديب في الرواية العربية" عن موقفه الثابت بشأن الانتقال من الأفكار إلى معرفة المعرفة، معززاً مقولته بعد أن ترجم أكثر من 30 كتاباً لسيغموند فرويد، بأننا نقوم دائماً بتمزيق الأب، نفسياً على الأقل، من دون أن نمتلك الوسائل المساعدة للتصالح معه، وهو ما استطاعه طرابيشي بكل جدارة، عبر  جهوده البحثية الجبارة، والتي جعلته علامة فارقة في الفكر العربي، ليس فقط كأول من ترجم لفرويد وهيغل بلغة العارف المتبحِّر، ولا من خلال هرطقاته المديدة عن الديموقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة، أو فقط عبر تفكيكه مركّبات الثقافة العربية بنقد رواياتها ثم مفكِّريها، ولا حتى بوضعه موسوعات في التأريخ الفلسفي وعلم الجمال بين يدي القارئ العربي، وإنما بجمعه كل ذلك ضمن مشروع فكري متكامل، يُفضي كل جزء فيه إلى الآخر.

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP