مولود فرعون.. أن تكتب بالفرنسية لتقول إنك جزائري

ishraq

الاشراق

الاشراق|متابعة 

اغتيل على يد مجموعة سرية فرنسية، وتحول أدبه إلى صوت الجزائريين.. من هو مولود فرعون؟ وما سر خلافه مع كامو؟

وُلد الكاتب الجزائري مولود فرعون، يوم 8 آذار/مارس 1913، واغتيل يوم  15 آذار/مارس 1962، في منطقة الأبيار على يد مجموعة سرية مسلحة فرنسية مع 7 من زملائه في العمل. 

من قريته القبائلية "تيزي هييل" بدأ رحلته نحو تجميع تراثه المحلي، الأمر الذي سيمكّنه لاحقاً من أن ينسج تجربته الحياتية بالموازاة مع الصورة الجماعية لعائلته الفقيرة وقريته النائية، ويمد جذوره ليتحول إلى صوت السكان المحليين، يرسم همومهم وتطلعاتهم زمن الاستعمار الفرنسي للجزائر. ولم تخلُ أعماله من واقعية مفرطة إعلاناً عن تشبثه بمكونات شخصيته ذات التجذر التاريخي الذي تمتاز به منطقة شمالي أفريقيا. عمل مولود فرعون في مهنة التدريس، ثم مفتشاً للشؤون الاجتماعية، بالإضافة إلى انغماسه في عالم الأدب. 

من أعماله الشهيرة "ابن الفقير"، التي كتبها عام 1939، و"الأرض والدم" و"الذاكرة" و"الدرب الوعرة" و"رسائل إلى الأصدقاء"، بالإضافة إلى "مدينة الورد" التي نُشرت عام 2007. وترك مجموعة رسائل ويوميات ومقالات، وألّف كتاب "أيام قبائلية" جمع فيه عادات القبائل وتقاليدها. كما أصدر ديوان أشعار سي محند، وهو أحد أعلام الشعر الأمازيغي.

أنا أكتب.. إذاً فأنا موجود 
إذا عدنا إلى علاقة الرواية ما بعد الكولونيالية بالمؤلفين، كما ذهب إلى ذلك إدوارد سعيد وبعض المشغتلين بهذا المبحث، فإن النص الأدبي أرض وجب افتكاكها من المستعمر، والاهتمام بها وفق معايير محلية لتجذير الهويات التي يخلخلها الاحتلال. وبذلك، تتم إعادة تشغيل الذاكرة الجمعية بعناصر السرد كالوصف والحكي والاسترجاع، وهي تمثّل رغبة في حماية عالم قديم من الاندثار. لم يشذَّ الكتّاب الجزائريون الفرنكفونيون في إبّان تأسيس هذا اللون الأدبي في منتصف القرن الماضي، والذين واجهوا فداحة الواقع بالعودة إلى الجذور، وتوثيق الواقع عن هذا المنحى.

فالثقافة هي الواجهة الثانية للمقاومة، وهي مرتبطة بالمكان لأنه محور النزاع بين القوة المحتلة وأصحاب الوطن. ومن لا يملك مساحة للسرد لا يملك أرضاً يبني عليها ذاكرة، وبالتالي لا يملك صوتاً يمكن أن يثير انتباه العالم ويجذبه نحو قضاياه. فكان مولود فرعون ومالك حداد وكاتب ياسين وغيرهم يملكون مفاتيح التعبير عن هموم الجزائر بواسطة اللغة، وكانت إجبارية تعلم اللغة الفرنسية، بالنسبة إلى السكّان المحليين، معضلة، نظراً إلى حالة الفقر شبه المعممة، لكنها سلاح ذو فعالية وجدت صداها لدى النخب المثقفة التي تتبنى أفكاراً تقدمية ويسارية  في فرنسا، وخصوصاً في ذلك الوقت.

وجاء في المجلة الجزائرية، "إنسانيات"، عام 1999، في بحث لمبروك قادة بشأن إشكالية الانتماء القومي للأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية، أن هذا الأدب حمل ملامح الشخصية الجزائرية وتطلعاتها، ونقل هذا الكم الهائل من الموروث الاجتماعي باعتباره كنزاً. وهو ما دفع إلى اعتبار اللغة الفرنسية غنيمة حرب، كما قال الكاتب كاتب ياسين. 

تأصيل الجذور في مواجهة الاستعمار 
كل مؤلفات مولود فرعون لم تشذّ عن قاعدة تأصيل انتمائه الإثني وانتمائه الوطني. ولعل روايته "ابن الفقير"، تلك السيرة الذاتية للطفل، ثم ما جاء بعدها من روايات، تنحو نحو رصد ذكريات وشخصيات قد تكون مستمَدة من ملاحظات أو حكايات معيشة متناقلة بين السكان، أو بين أفراد العائلة، وقد تكون ملامح أبطاله غير بعيدة عن محيطه الاجتماعي. وعلى رغم أنها مكتوبة بالفرنسية، فإن ّالكاتب ما فتئ يردد أنّ "المستقبل للغة العربية".

لا شكّ في أنّ "ابن الفقير"، التي حصدت الجائزة الأولى لأفضل عمل روائي في مدينة الجزائر، أهّلت مولود فرعون ليصبح اسماً أدبياً لامعاً، بعد أن صنع من الحكايات اليومية أساطير صغيرة وملهمة، لأنها من واقع يحفل بتحدي الفاقة والمصائر المحتمة على شخصياته، وضرورة مكابدة الحياة.

واستخدم عناصر من حياته لإنتاج عمله الأدبي، وهو ما يحمل القارئ على التساؤل بشأن قسوة الكتابة، على رغم سحرها وشاعريتها، إذ إنها جزء من الذات يتم التضحية به قرباناً يتم سفكه على الورق، ثم يأخذ صدقيته من قربه من الإنسان، بالمعنى الكوني للعبارة، متخطياً حدود اللغة والجنسيات. وهذا ما سمح للرواية بأن تترجَم إلى لغات كثيرة، منها اليابانية. وعلى رغم طابعها الواقعي، فإن رواية "ابن الفقير" لم تخلُ من نزعة رومانسية تُبرز ولع الكاتب بهذا الصنف من الأدب الكلاسيكي الغربي، بالإضافة إلى اهتمامه بالأدب الروسي. 

وجاء في تصديرها اقتباسٌ من أنطون تشيخوف، نصُّه "سنعمل للآخرين الآن وفي شيخوختنا من دون أن نعرف سبباً للراحة، وحينما تحل ساعتنا سنموت. وسنقول هناك في لحدنا إننا تعذبنا وبكينا وتجرّعنا المرارة. حينذاك سيمنحنا الله من لدنه الرحمة"، وهو ما عبّر عنه فرولو، بطل رواية "ابن الفقير"، في قوله: "وحدي. أعزل في هذه المعركة الرهيبة التي لا ترحم"، والذي تشكلت ملامحه وفق النمط القبائلي، وكان يرصد علاقة الرجال بالنساء، ويشير إلى قيمة الفرد وفق تراتبية مغلقة، وكذلك قيمة الذكورة في تحديد المصائر والعلاقات في بيئة تحرسها أسوار الأسلاف وحِكَمهم القديمة.

أمّا رواية "الأرض والدم"، وهي جزء من ثلاثية الانتماء الأمازيغي، فترسم سوء الفهم في العلاقات الاجتماعية، وتشير إلى الحلم الذي يقارب السذاجة لبناء عالم تسوده المحبة بعد البحث في الهجرة كحل لأغلبية المشاكل المادية المَعيشة. 

وتقع أحداثها في قرية متخلفة وموحشة، بحسب رؤية خارجية، لكنها محكمة الصنع وفق التقاليد. بنبرة واقعية يحسم اليومي المتوارث مصائر الأبطال، إذ لا وجود لأرض من دون وريث، وليست القسوة والموت سوى تأكيد لهذه القناعة.

تحوّلت هذه الرواية في الألفية الثانية إلى مسرحية حملت الاسم نفسه، وعُرضت في الجزائر. أما رواية "الدروب الوعرة" فتدور أحداثها في منطقة القبائل الكبرى، وهي "أغيل نزمان"، وورد فيها: "لقد علمتنا التجربة بأن دروب الحياة كلها وعرة فلماذا إذن نختار الطريق السهل الذي يؤدي إلى الهاوية؟ لقد وجدت نفسي كغيري من الناس أمام دروب وعرة، وما نحن في الواقع إلّا فقراء في بلاد فقيرة. فهل كُتب علينا بالفعل أن نكون أشقياء في هذه الحياة؟".

مراسلات مولود فرعون وألبير كامو 
كان فرعون يؤمن بكونية الأدب، وبأن الأديب الحقيقي يحمل أفكاراً إنسانية كبرى، ويدافع عن العدالة والحق، بالإضافة إلى احترام الآخر. وكان يكتب في الصحافة الناطقة بالفرنسية، بحيث نُشرت بعد أعوام من اغتياله، وهي تُظهر في جانب منها ولع كاتب قبائلي شاب بآخر مشهور، جزائري المولد وفرنسي الانتماء. واكتشف هذا الأخير شخصية كاتب جزائري موهوب "يتمتع بذكاء هادئ"، ولهما حقل التقاء مشترك، هو التحدث بلغة عالمية هي الأدب. 

انتقد مولود فرعون، في إحدى مراسلاته ألبير كامو، سببَ تغييب الجزائريين عن رواية "الطاعون" على رغم أن أحداثها تحصل في وهران، فكتب إليه قائلاً: "لقد اعتقدت ببساطة أنه لو لم تكن هناك فجوة بيننا لكنتَ ستعرفنا بصورة أفضل. كنت ستشعر بالقدرة على الحديث عنا"، فيردّ عليه كامو: "أنت في حاجة إلى موهبة لست متأكداً من أنني أملكها". وهو في ذلك يحث محاوره على أن يَصُوغ الحادثة بعينه المغايرة. لقد كان كامو يعلم بأن الجزائر، بطريقة ما، كانت عاملاً مهماً في فوزه بجائزة نوبل للأدب عام 1957.

ولعل قيمة هذه العلاقة بين الأديبين تظهر أيضاً في رسالة كتبها فرعون إلى كامو عام 1951، يقول فيها: "إذا تمكنت يوماً من التعبير عن نفسي بهدوء فسأَدين بذلك لكتبك، التي علمتني معرفة ذاتي، ثم اكتشاف الآخرين".

جمع الرجلَين الإيمانُ المشترك بالحرية، في مفهومها السياسي المناهض لكل مظاهر الاستعباد، وإن كان كامو أظهر تحفظاً في بعض آرائه، إذ كان أحياناً يلتزم الصمت العاجز أمام ما يزخر به الواقع الدامي في الجزائر من أحداث، وهو حينها كان يتم تفسيره كنوع من التعاطف.

التقى كامو مولود فرعون عام 1958، وظل محتفظاً بتلك الصداقة. كان يكفي أن يفهم إشكالية الدفاع عن الحق في الاستقلال والدفاع عن الحق في ممارسة الكتابة بلغة بعيدة عن اللغة الأم، معتقداً أن حياته، كما ذهب إلى ذلك بعض النقاد، تستحق أن يعرفها أبناؤه وأحفاده.

يوميات مولود فرعون
هذه اليوميات كُتبت بعد عام على اندلاع الثورة الجزائرية، وظل محافظاً على عادة التدوين إلى عام1961. وكتب قبل اغتياله أنه لا يرغب في الموت ولا يحب أن يفقد أطفاله، وأنه يلتزم الحذر، لكنه قد يتعمق فيها لو طال به العمر. ونصحه صديقه إيمانويل روبلاس بعدم نشرها في تلك الفترة الحرجة، التي كانت تمر فيها البلاد، لكنه أصر على عكس رأي صديقه، وكانت في صفحات تتفاوت في الحجم على امتداد 8 أعوام.

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP