أحمد عاشور.. من الضواحي إلى قيادة الأوركسترا السيمفوني التونسي

ishraq

الاشراق

الاشراق|متابعة 

ترك سيرة موسيقية وإنسانية أثْرت الحقل الثقافي في تونس، ما هي أهم المحطات التي طبعت نشاط الموسيقار أحمد عاشور؟ وما هي سمات تميّزه؟

ولد أحمد عاشور في 6 شباط/فبراير عام 1946 في ضاحية حمام الأنف، وهناك تلقى تعليمه الابتدائي وانتقل في إثر ذلك إلى المعهد العلوي بتونس العاصمة عام 1957 ليظهر شغفه بالموسيقى وبالعزف على آلة الكمان، من خلال نادٍ كان مخصصاً لذلك. الأمر الذي دفعه بعد ذلك إلى دخول "المعهد الوطني للموسيقى" بعد حصوله على شهادة البكالوريا  بالموازاة مع دراسته الحقوق. وحصل عام 1967 على دبلوم الموسيقى العربية والجائزة الرئاسية للعزف على آلة الكمان، ثم واصل دراسته العليا في باريس في سكوالا كانتروم حيث تحصّل على دبلومات عديدة منها الكتابة السيمفونية والقيادة الأوركسترالية والهارموني والكنتريات.

درّس عاشور في  "المعهد العالي للموسيقى" بتونس وقاد الأوركسترا السيمفوني من سنة 1979 إلى سنة 2010 حيث تم تكليفه  بعد عودته إلى تونس بقيادة الأوركسترا السميفوني التونسي بعد أن تولى مهمة عازف كمان أول، وقد تولى أيضاً إدارة "المعهد العالي للموسيقى" و"المهرجان الدولي للفنون الشعبية"، وكان عضواً في إدارة الراشدية وعضواً مؤسساً في "اتحاد الموسيقيين التونسيين"، ودرّس نظرية الموسيقى والهارموني والصولفيج.


ترك أحمد عاشور عدة أعمال منها الفصول الخمسة وسيمفونيا البحر المتوسط وألّف عشرات الأعمال وقاد المجموعات الصغيرة في المجال السيمفوني، إضافة إلى موسيقى الحجرة. ونذكر من أعماله 3 كونشرتو للكمان وكونشرتو للبيانو والأروكسترا ونشير كذلك إلى عمله أليس. فسيفساء بلدي وتنويعات شرقية لرقصة الماريونات ورابسودي الجمّ واستيهامات ومنظر طبيعي لسيدي بوسعيد وحنين وغيرها. كما وضع ألحاناً أوركسترالية لبعض القصائد التونسية مثل قصيدة الصباح الجديد لأبي القاسم الشابي وكلمات لمنور صمادح، وأجرى تعديلات موسيقية تتماشى مع الموسيقى السيمفونية لبعض القطع الموسيقية المشهورة في تونس في مقامات شرقية أو عربية والمالوف مثل "أليف يا سلطاني"، وقدّم حفلات موسيقية سيمفونية في موسكو وسان بطرسبورغ وباريس والجزائر وبلغاريا والمغرب.

خصوصيات التمشي الموسيقي لأحمد عاشور


لم يمنع ولع هذا الفنان بآلة الكمان والتخصص في الموسيقى السيمفونية ذات الجذور الغربية، تجذّر هذا اللون الفني  منذ القرن الــ 18، ليتطوّر في القرن الموالي له ويشهد تنويعات في القرن العشرين، حيث يدرك بمعرفته الموسوعية  هذا التحديث في التنويعات اللحنية والمقامية والصوتية مما ساعده على المضي قدماً في مشروعه الفني وكان يؤكد أهمية الآلات الموسيقية العربية في نحت أسلوب فريد في التأليف وثراء الإيقاع الشرقي والعزف على هذه الآلات في توظيف التمازج  بين الشرق والغرب.

وكان للمناخ العام الذي شهدته الساحة الموسيقية في تونس غداة الاستقلال تأثير مهم على أحمد عاشور الذي تغذت ذائقته الفنية بالتراث المحلي والقومي العربي، زيادة على التقاليد التعليمية المتوارثة في الموسيقى العربية التي تعتمد على الانتقال الشفوي والحفظ، مما يمكّن المتعلم من معرفة القوالب الموسيقية ومختلف الصياغات الفنية التي تمثل ركائز التلقين وتفتح المجال لمعرفة خصوصيات مقبلة من حضارات متنوعة واحترامها بعد تقبلها كجزء من تراث فني لا يعترف بالحدود. لذلك كان أحمد عاشور موسيقياً متميزاً. إذ كان يدمج الموسيقى الشرقية مع  نظيرتها التونسية.

وكان يستخدم مقامات تونسية أصيلة كرصد الذيل والنوى أيضاً، وقد مكنه هذا الاستقبال الفني في إنتاجه الموسيقي من أن يوزع أعمالاً مشهورة لفنانين من العالم، وقد ذكر قائد الأوركسترا السيمفوني سام سليمان في بحثه المعنون بــ "الأوركسترا السيمفوني التونسي تاريخه وآفاقه"، أنّ من العوامل التي جعلت من أحمد عاشور قائد أوركسترا مميزاً أنه كان يختار المعزوفات الغربية التي تتقبلها الأذن العربية مثل الموسيقى الإسبانية. 

طريقة التأليف عند أحمد عاشور
كان عاشور منفتحاً على الموسيقى المحلية والعالمية، مما سمح له باحتلال مكانة خاصة في الحقل الفني التونسي مدرّساً يتمتع بسمات تعليمية بيداغوجية تتقبل الاختلاف والتطوير، وتسعى إلى الاستفادة مما تزخر به المدونة العالمية الكلاسيكية غرباً، وكذلك جلب ما يتماشى منها مع الذائقة المحلية.

يقول الباحث زياد العرقوبي في بحثه حول مسيرة أحمد عاشور إنّه كان يعتقد أنّ اللغة الموسيقية لا يمكن أن تكون مقياساً لترتيب تفاضلي بين الأجناس والأشكال الموسيقية، ولا كذلك بين التقاليد والتيارات.

كما رأى أنّ الكتابة الموسيقية تقلل من الاختلاف وهذا ما يميز الموسيقى العربية من الناحية التأليفية عن ألوان أخرى شرقية ومغاربية، حيث يكون للذوق والمخزون والذاكرة خاصة دور كبير في الاستساغة والاستحسان، وبالتالي تكثر الآراء وتتنوع في هذه الألوان ولا تتعارض هذه الخاصية مع التأليف الموسيقي المقنن.

ويشير العرقوبي إلى تفطن المايسترو عاشور إلى جذور هويته الموسيقية. فهو لم يغفل عنها أثناء قيادته لفرقة الموسيقى السيمفونية التي كانت تعزف لبيتهوفن وباخ وشوبان، وأخذ يمهد من خلال الاندماج في الفكر التأليفي الغربي وممارسة وإحداث تصور خاص يتماشى مع طبيعة العروض في تونس.

هناك نماذج كثيرة من الأعمال الموسيقية لأحمد عاشور تظهر هذا المزج في التأليف بين الهوية الخالصة وبين الهوية المكتسبة في التعامل مع اللحن والمقام والآلات بمختلف تنويعاتها، بصرف النظر عن منشئها جغرافياً.

 أحمد عاشور الانسان والفنان النادر
سألت "الميادين الثقافية" الدكتور سمير بشة، مدير "المعهد العالي للموسيقى" في تونس حول أحمد عاشور، وتمحورت إجابته حول الجانب الإنساني والبيداغوجي الملهم لهذا الملحن والأكاديمي والقائد الموسيقي.

وقال بشة إن عاشور: "من أهم الموسيقيين التونسيين. فهو ذو ثقافة موسوعية إضافة إلى إلمامه بالموسيقى كحقل معرفي، حيث كان منتبهاً لدوره الحضاري في إدماج الكثير من التونسيين ضمن الأوركسترا السيمفوني، وكان له دور في إدخال الآلات النادرة إلى هذا الكنز الموسيقي".

وأضاف: "شجع عاشور رفد هذا الصنف الإبداعي بالآلات النفخية والإيقاعية الغربية والوترية. كما كان له دور تعليمي، إذ استدعى إلى تونس العديد من الموسيقيين المتميزين في هذا المجال لإكساب العازفين الخبرة والتلاقح الفني".

وكان سمير بشة أحد طلبة عاشور العازفين في الأوركسترا السيمفوني التونسي، وذكر أن عاشور كان يمتاز بدقة الملاحظة واقتناص المواهب وإعطائها فرصة للتميز والبروز، ممّا أهّله لأن يكون مكتشف أسماء تونسية لامعة سواء في مجال القيادة أو التلحين والتوزيع الموسيقي، وكان يستدعي كذلك أسماء عربية لمزيد من إشعاع هذا الصنف الفني سواء من مصر أو المغرب أو الجزائر وغيرها.

وذكر بشة انضباط عاشور في التسيير الإداري وفي المتابعة البيداغوجية للطلبة وكان أيضاً مؤلفاً متميزاً، إذ عرف بأنه كان له أسلوب يتطور باستمرار وقد كتب في الموسيقى اللاتونية. فكان حامل مشروع موسيقي يتلازم من خلاله نمطان موسيقيان هما العربية والكلاسيكية، وقد ترأس لجاناً وطنية كبيرة وكان يشرف على دبلوم الموسيقى العربية وكان يؤلف معتمداً التقنيات الحديثة مستخدماً برمجيات متطورة.

وأشار بشة إلى أن أنه كان طالباً مقرباً من المايسترو عاشور مما مكنه بأن يطلع على أعماله ويرى أنه كان يؤمن بأن الفنان يجب أن يتمتع بصفات إنسانية نبيلة لأنها جوهر الفن، داعياً إلى تكوين مكتبة تضم كل أعمال عاشور "لأنها ثروة وطنية".

من جانبه، قال الدكتور محمد بوسلامة، المدير الفني للأوركسترا السيمفوني التونسي، أن أحمد عاشور كان أستاذاً استثنائياً وكان مطلعاً على كل مستجدات الموسيقى السيمفونية ومعروف بانضباطه في العمل مما أهّله لأن يبقى على رأس تلك المؤسسة الفنية مدة طويلة.

وأضاف بوسلامة: "كان عاشور يحثّ الجميع على المواظبة والاستمرار"، مشدداً على "أهمية الصلة التي كانت تربط أحمد عاشور بالعازفين والطلبة، حيث كان يعمل على إيجاد مناخ ملائم سواء في البروفات أو في فصول الدراسة أو في الحفلات التي يقودها. وكان هناك تقليد يتمثل في إقامة حفلات دورية يسعى من خلالها هذا الموسيقي النادر إلى إعطاء أكبر فرصة للعازفين التونسيين، مما خلق جيلاً من الموسيقيين المهرة وهذا يفتح المجال لضرورة أرشفة رصيد أحمد عاشور".

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP