إريك جيروم ديكي.. كاتب "الفرح الأسود"

ishraq

الاشراق

الاشراق|متابعة 

انتقل من التمثيل إلى الشعر والقصَّة وصولاً إلى الرواية... لماذا وصف إريك جيروم ديكي بكاتب "الفرح الأسود"؟

في إحدى دورات "مؤتمر الكتاب الوطني" في مدينة أتلانتا الأميركية، حضرت ليندا دوغينز، عضو مجلس إدارة المؤتمر وكبيرة مديري الدعاية في دار "غراند سنترال" للنشر، إحدى شركات مجموعة "هاشيت"، بمشيةٍ عرجاء وحذاءٍ طويل يصل إلى الركبة، نتيجة إصابتها بكسر في القدم. 

فوجئت ليندا بإريك جيروم ديكي، الكاتب المحبوب والمصنَّف الأكثر مبيعاً بحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، حيث يمتلك ملايين القراء حول العالم، وتحيط بأمثاله عادةً في الولايات المتحدة هالة كبيرة وعدد كبير من المرافقين والإعلاميين والمساعدين، يصعد إلى سيارتها قبل انطلاقها لحضور إحدى فعاليات المؤتمر، ويطلب منها الجلوس على المقعد المجاور للسائق، ليتولى هو القيادة بدلاً منها. لم يتحمَّل إريك رؤيتها تعرج في مشيتها من دون أن يقدّم لها المساعدة، "عيَّن نفسه سائقاً لي طوال مدَّة المؤتمر، كان هذا إريك... لقد أحببناه جميعاً"، تقول دوجينز.

من جهته، يقول الكاتب الأميركي ترافيس هانتر إنّ أحداً لم يكن قد سمع باسمه عند صدور كتابه الأوَّل، ولكنّ إصرار ديكي على دخولهما سوياً إلى إحدى الفعاليَّات الأدبيَّة وتقديمه للجميع قلَبَ الأمور في 5 دقائق، فصَلَتْ هانتر عن لقاء عدد من وكلاء صناعة النشر الذين تهافتوا عليه، ليشقّ طريقه بعدها ويصبح كاتباً معروفاً على مستوى الولايات المتحدة. كان لدى هؤلاء من الثقة بذائقة ديكي وخياراته ما يكفي لمنح من يزكّيه ثقتهم أيضاً. 


"كان مسؤولاً تماماً عن كل مسيرتي، لم يكن أخي الأدبي فقط، لقد بنينا صداقة حقيقيَّة"، يقول صاحب رواية "قلوب الرجال". 

لن يسمح ديكي لصديقه بالتنازل عن بعض حقوقه، في وقت لاحق، أثناء تفاوضه مع أحد الناشرين تحت وطأة أزمة مالية وقع فيها، بل سيتكفّل بدفع الفواتير المترتبة عليه إلى أن يحظى بعقد منصف ومناسب، وهذا ما حصل فعلاً، ليرسل هانتر إلى ديكي بعدها شيكاً بالمبلغ الذي صار مديناً له به، فيرفض الأخير تسلمه ويعيده إليه. "كان هذا إريك"، يقول هانتر. 

شهادة الكاتبة كيمبرلا لوسون روبي لا تختلف عن سابقتَيها، تقول صاحبة رواية "الزواج المثالي": "عندما بدأت عملي كمؤلفة، لم أكن أعرف أحداً في الوسط الأدبي. قابلت إريك في حدث أدبي. جاء إليَّ وقدَّم نفسه وهنَّأني. منذ ذلك الحين أصبح أحد أكبر الداعمين لي. كان يقدّم النصيحة من دون أن يكون عليَّ أن أسأل. لقد كان كريماً ومليئاً بالحياة. أحببت الطريقة التي احتضن بها المؤلفين الآخرين. لقد كان حقاً أخي".

حياة قصيرة حافلة بالإبداع
وُلِدَ ديكي في مدينة ممفيس بولاية تينيسي، في 7 تموز/يوليو 1961، وعاش فيها طفلاً وحيداً تولت جدَّته تربيته، قبل أن ينتقل إلى لوس أنجلوس للعمل في مجال الهندسة وكمطوّر برامج في مجال صناعة الطيران، ولكنه سرعان ما اكتشف في نفسه ميلاً إلى خيارات إبداعية أخرى، مثل التمثيل الكوميدي والشعر وكتابة القصة القصيرة والسيناريو. تابع ديكي دروساً في الكتابة الإبداعيَّة، وفي النهاية وجد نفسه في الرواية، التي ستكون رفيقته حتى اللحظة الأخيرة في عمره القصير.

كان ديكي مؤلفاً غزير الإنتاج، فَنَشَر في حياته 29 رواية، بيعت منها أكثر من 7 ملايين نسخة، وتراوحت بين الخيال المعاصر والرومانسية والتشويق، وأبرزها "الأصدقاء والعشاق" و"الأخت، الأخت". واستطاع بفضل أسلوبه المميَّز، وإجادته استخدام ذكائه الحادّ، وروح الدعابة الموجودة لديه في أعماله الأدبيَّة، أن يصبح الكاتب المفضّل لدى الكثير من القرّاء. 

"صاحب الأعمال الآسرة" و"ساحر الكلمات" بحسب وصف قرّائه، كان صاحب شخصية ساحرة واستثنائية أيضاً. شخصيته اللطيفة والمحبّبة، وسلوكه البعيد تماماً من الغرور، وابتسامته الدائمة في وجوه معجبيه حيث يلتقي بهم، جعلت قرّاءه المفتونين بأسلوبه أقرب إلى المريدين المخلصين. واحتراماً لقرّائه هؤلاء كان يتحدّى نفسه مع كل كتاب جديد، ويسعى دائماً إلى جعل ما يكتبه أفضل ما يمكن أن يكون، متجنِّباً الوقوع في فخ تكرار نفسه، فكان قبل كل رواية جديدة يسافر إلى مكان مختلف، حيث يعيش لأشهر منصرفاً إلى الكتابة، ولا يعود إلا وقد أنهى عمله الجديد. 

"أحببتُ الشعور الذي أحسُّ به عند قراءة قصصه: المواقع حقيقيَّة والشخصيَّات كذلك، تعيش وتتنفس مثلنا تماماً، وفوق هذا كله هو كاتب رائع، يحترمك كقارئ ويجعلك تشعر أنَّك مهم"، تقول إحدى قارئاته.

روايته الأخيرة، "ابن السيد سليمان"، صدرت في شهر نيسان/أبريل من العام 2021، أي بعد 3 أشهر من وفاته. كان قد اكتشف قبل فترة إصابته بالسرطان، فاضطرّ إلى الغياب عن حضور المناسبات الأدبية التي لم يكن يفوته حضورها من قبل. وعلى الرغم من ذلك، حافظ على خصوصيَّة حياته الشخصيَّة كما كان دائماً، ولم يبُح بأمر مرضه سوى لبعض المقرّبين. وكان من يراه يلاحظ بوضوح تراجع وزنه بشكل حاد وسريع، ولكنَّ ديكي كان يجيب على الأسئلة حول هذا الأمر بدعابة جديدة كما اعتاد دائماً.

كاتب "الفرح الأسود"
ليس صدفةً أنَّ كل الآراء الواردة أعلاه بحق ديكي، ككاتب وإنسان، أتت من كتّاب أميركيين من ذوي البشرة السوداء، فالفرز بهذه الطريقة لا يزال قائماً في الولايات المتحدة على الرغم كل ادّعاءات القضاء على العنصريَّة، والوسط الأدبي ليس بمنأى عن هذا الفرز وخلفيَّته العنصريَّة، وديكي كاتب لم ينسَ جذوره يوماً.

تقول ليندا دوغينز، انطلاقاً من تجربتها الطويلة في عالم النشر الأدبي، إنَّ الناس في الولايات المتحدة ينظرون بصورة مختلفة إلى الكتب التي يؤلّفها كتّاب سود، ويسارع الناشرون إلى التخلص من هؤلاء إن لم تكن مؤلفاتهم شيئاً عظيماً وتحقّق نجاحاً استثنائياً، ولكنّهم لا يفعلون الأمر نفسه مع الكتب التي لا تحقّق صدىً جيداً ويكون مؤلفوها من البيض، وهي مقاربة تشبه إلى حدّ بعيد الدعوات العنصريَّة التي سُمِعَت مؤخراً في فرنسا، إثر فشل منتخبها الكروي المطعَّم بلاعبين من أصول أفريقيَّة في الحصول على كأس العالم، على الرغم من إنجازهم المتمثل في الوصول إلى المباراة النهائيَّة.

وتستذكر دوغينز حادثة عمل حصلت معها، يومَ عرضت على محرّرة أدبيَّة لا تعرفها من قبل أن ترافقها إلى الطابق العلوي، حيث يقام حفل إطلاق كتاب جديد لكاتب أسود البشرة، لتجنّبها الإحراج الناتج من كونها لا تحمل بطاقتها الشخصيَّة، لتسألها الأخيرة مباشرةً إن كانت تجمعها صلة قرابة بالمؤلف، وكأنّها تستبعد مسبقاً وجودها في هذا المكان ببشرتها السوداء لسبب آخر غير القرابة، هو وظيفتها ومنصبها على سبيل المثال، والمفارقة أنَّ المحرّرة كانت قد عملت على تحرير كتاب للمؤلف نفسه، يدور حول البدايات الأولى للممارسات العنصريَّة تجاه السود في الولايات المتحدة!

في مثل هذه الأجواء عاش ديكي حياته الأدبيَّة القصيرة، وكان فخوراً بجذوره ومخلصاً لهويته، ولكنه تجاوز مجايليه من الروائيين الأميركيين السود، الذين استغرقوا في وصف الظلم اللاحق بأسلافهم وتفرَّغوا له، ليطلّ على حياة أصحاب البشرة السوداء، مركّزاً على النساء منهم، من زاوية أخرى فيها طابع روحاني مزدهر صامد مجيد، اصطُلِح على تسميته "الفرح الأسود".

استمع ديكي كيف تتحدَّث النساء السوداوات، وحاول إدراك الخصوصيَّة في تحدياتهن الحياتيَّة، وعمل بجدّ كي لا يستغرق كغيره في الصور النمطيَّة التي لا ينجو منها أحياناً حتى الكاتب القريب، وسمح لهنّ برؤية أنفسهن على صفحاته، وكان التعاطف الذي أبداه مع شخصيَّاته شهادةً على الجهد الذي بذله لفهمهن. ولم تحجب موضوعاته هذه انتماءه الإنساني الذي بقي هو الأساس على الدوام.

تعلّم القواعد ثمَّ ابحث عن طريقة لكسرها!
يوجّه إريك جيروم ديكي مجموعة من النصائح لكاتب شاب، نذكر منها:

- إذا كانت لديك الموهبة فسوف تكتب في النهاية مهما كان الأمر، سوف تتحسَّن في حرفتك، قد يستغرق الأمر سنوات، وقد تكون محاولاتك الأولى مستوحاة من كتّاب آخرين أو محاكاة لجهودهم، ولكن عليك الخروج من هذا كله في لحظةٍ ما. اكتسب المهارة. إبحث عن أسلوبك. إبحث عن صوتك. لا تكن مقلِّداً أو ناسخاً. فات أوان الغناء مثل ويتني هيوستن. وصلتَ أم لم تصل. كن نفسك. أكتب ما يلامس روحك، ولا تمنح نفسك أي فترة راحة، لا تأتي إلى هنا للراحة، ليس في الكتابة استراحات. عليك أن تكون جاهزاً دوماً. ابقَ مستيقظاً حتى الثالثة صباحاً، سعيداً لأنَّ الناس نيام حتى تتمكن من الكتابة بهدوء.

- بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، صرنا نرى الكثير من الأشخاص الذين يفتقرون إلى الصبر والاستعداد الجيد، يتطلعون إلى تحقيق الشهرة ولا يدركون أنَّ الكتابة عمل شاق، ثمَّ نراهم يتعثرون ويحترقون في الصفحة الثانية.

- يرغب الكثيرون في أن يصبحوا كتّاباً، ظنّاً منهم أنّها طريقة سهلة للحصول على المال، أو أنّهم يريدون فقط وضع أسمائهم على غلاف رواية، ويفترضون أنَّ العالم بأسره سيهتف لهم ويمجّدهم عندما تُنشر. يريدون "حفل زفاف أدبي". لا يحدث ذلك عادةً بهذه الطريقة، على الأقل ليس بالنسبة لي.

- ما لم تحصل عليه قد لا يكون لك منذ البداية، وتبقى على الرغم من ذلك شخصاً رائعاً. عرفتُ في حياتي الكثير من الناس، ومثلما لا يستطيع الجميع الغناء، لا يمكن لأي كان الكتابة بمستوى عالٍ.

- اطلب الإلهام لا المجد. المكتبة مليئة بكتب وكتّاب مميّزين لم يسمع معظمنا بأسمائهم من قبل، وقد اضطرّ الكثير منهم إلى الاحتفاط بوظائف بدوام جزئي لدعم هوسهم بالكتابة. لا تأتِ إلى هنا من أجل اليانصيب. يجب أن يكون لديك الهوس، الحبّ، شيءٌ ليس فيه من روحك وقلبك سيكون مضحكاً.

- افعلها من أجل الحبّ. ومرَّة أخرى، الكتابة مهنة. مثلها مثل الهندسة، أو التمريض، أو التمثيل، أو الغناء. عليك أن تقوم بعمل يميّزك عن أولئك الباحثين عن دقائق من الشهرة. استثمر الوقت وادرس حقاً هذه الحرفة. افهم أسلوب الآخرين، وافهم سبب نجاح بعض الروايات وفشل بعضها الآخر، ومن ثمَّ ابحث عن نفسك وعن أسلوبك الخاصّ. امنحها طاقتك. تعلم القواعد، ثمَّ ابحث عن طريقة لكسرها!

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP