غناء "محمود درويش" ومُسنَده الملحميّ

ishraq

الاشراق

الاشراق | متابعة.

في رام الله، وبالتعاون مع «كرسي محمود درويش»/ البوزار في بروكسيل، ومؤسسة محمود درويش، استضافت مؤسسة عبد المحسن القطان مؤتمراً دولياً بعنوان «محمود درويش: سردية الماضي والحاضر»؛ شارك فيه، حضورياً أو عبر الإنترنت، 20 باحثة وباحثاً توزعت أوراقهم على 5 جلسات حملت العناوين التالية: جدلية الضمير الأول: صرح درويش الشعري بين الـ”أنا” والـ”نحن”؛ قوالب صوتية درويشية؛ درويش في المكان: معانٍ للخواء وفصائله؛ درويش أو النّبع الذي لا ينضب؛ ودرويش في ضوء الأدب المقارن.

 ولقد تشرفت بتقديم ورقة في هذا المؤتمر تحت عنوان “محمود درويش: الإفصاح الغنائي والمُسنَد الملحمي”، عادت معظم فقراتها إلى ما سبق لهذه السطور أن تناولته من جوانب الشخصية الغنائية/ الملحمية في قصيدة درويش عموماً، منذ نماذجها الأبكر؛ ولكن أيضاً، بصفة أكثر تخصيصاً، إلى مراحل ومجموعات محددة شهدت انسياق درويش إلى العنصر الغنائي أكثر من الملحمي، وأخرى سجّلت انخراط قصيدته في الخيار التعبيري الثاني أكثر من الأوّل. وكان متكأ الورقة الإحاليّ الابتدائي هو تصريح درويش الشهير، سنة 1987: «مازلتُ أطلب الغناء وأرفض الرومانسية. ما زلت أحثّ الواقع، بكلّ ما فيه من مفارقات وتناقضات وعبث، وأصرّ على الغناء الذي لا يشبه الغنائية المعروفة. لقد أراحني يانيس ريتسوس حين وصف شعري بأنه ملحمي غنائي، أو غنائية ملحمية». والأرجح أنه في اللجوء إلى الفعل «أراحني»، كان درويش يدفع إلى خلفية التصريح حقيقة أنّ هذا المزج بين الشدو الغنائي والإنشاد الملحمي كان بمثابة مستقرّ شخصي طلبه الشاعر وانتهجه على سبيل متنَفَس من طراز تركيبي خاصّ، طليق التركيب.


والإلحاح على ذلك المزيج من الغنائية والملحمية أسفر عن فسيفساء شعرية رفيعة طبعت غالبية محطات حياة الشاعر وأطوار وعيه؛ كما صنعت حقول تقاطع بين تلك المحطات والأطوار بين محيطها الخارجي التاريخي والجغرافي والطبيعي، وهذا هو جدل الزمان والمكان بمعنى آخر. ومنطق بناء تلك الفسيفساء يبدأ، غالباً، من نقطة لقاء بين الشاعر والخارج (الحدث التاريخي، اسم العلم، المكان، العلامة الأسطورية…)؛ استدخلها الشاعر إلى نفسه وإلى سطوح وجدانه الذاتية أولاً؛ ثم استولد منها ما يشبه الرؤيا الكثيفة التي تحدس (غنائياً، ولكن فكرياً وفلسفياً أيضاً) خطوط التقاء الداخل بالخارج، وكيف أعادت تلك الخطوط رسم هذا التفصيل أو ذاك من حياة الشاعر أو وعيه السِيَري. وفرادة درويش في هذا التمرين، وربما بصماته التي دأبت على الانفراد والتميّز، أنه ترك لذلك الحدس الملحمي حرّية استكشاف الفارق بين حالة عيش، وحالة وجود؛ بين شجن الوجود، وإواليات الدفاع عن الوجود.
وليس هنا المقام المناسب لاستعراض محاور الورقة، والأنماط الخمسة التي تتناوب على الإفصاح عن السمات الفنية العالية في قصيدة درويش الغنائية، مقابل مُسنَد ملحمي ناظم يزوّد قصيدة درويش الملحمية بخمسة أنماط من تلمّس التاريخ والتقاط الوجدان الجَمْعي وإقامة الصلات بين الذات والجموع. ولكن قد يصحّ التنويه هنا إلى أنّ مفهوم القصيدة الغنائية شهد تطورات هائلة في إطار منجزات النظرية النقدية خلال القرن العشرين، فنأى من حيث الجوهر عن فكرة النصّ المكتوب بقصد التلحين أو الغناء، بادئ ذي بدء؛ واقترب أكثر فأكثر من حال التجانس بين ثلاثة عناصر: الصوت/ ضمير الأنا الناطق في القصيدة، ومنظوماتها المجازية والفنية العالية، والموسيقى بوصفها معماراً إيقاعياً مركباً يتجاوز الوزن والعروض. في المقابل، كان الشاعر الأمريكي إزرا باوند قد اقترح التعريف الأشدّ إيجازاً للملحمة، والأعرض إحاطة أيضاً ربما، حين اعتبر أنها «قصيدة تحتوي التاريخ، وفيها ينطق رجل واحد باسم أمّة بأسرها»؛ وقد يكون هذا ركناً واحداً في الموقع الملحمي الذي شغلته قصيدة درويش الملحمية، ولكنه البتة ليس الجوهر الإجمالي المركّب والمعقّد للأنساق الملحمية التي سعى إليها الشاعر عبر تاريخه الشعري عموماً، وابتداء من مجموعته «أرى ما أريد»، 1990 بصفة خاصة.
وفي الوسع الذهاب، هنا أيضاً، إلى متكأ إحاليّ ابتدائي يعود إلى مطلع العام 1993، فيه يقول درويش: «تشكل نصوص الكتب الأربعة الأخيرة أساساً لمشروع شخصي طويل، أرجو أن أتمكن من الاستمرار به. إنه مشروع الملحمية الغنائية، وإطلاق اللغة الشعرية في أفق ملحمي يكون فيه التاريخ مسرحاً لمناطق شعرية فسيحة تتسع لتجوال غير محدود للشعوب والحضارات والثقافات، ولبحث عن عناصر الهوية الذاتية ضمن قوانين اختلاط وتصادم وتعايش الهويات». ولم تكن مفارقة، بل صيغة ربط جدلية، أنّ ضمير الأنا المتكلم كان بمثابة المُسند الأعلى في قصيدة درويش الملحمية، على غرار ما قصده النحاة والمناطقة العرب: في أنّ الإسناد ضمّ تركيب لغوي إلى آخر على وجه الإفادة التامة، وفي أنّ المُسنَد هو الحكم المراد إسناده إلى المحكوم عليه. إسناد درويش أقرب إلى سيرورة دينامية من التعايش بين انبثاق الشخصية المفردة، كما تتجلى في حضور السيرة الشخصية والوعي السِيَري، من جهة أولى؛ وتقدُّم الأنا كقيمة إنسانية، أكثر كثافة من مجرد ضمير المتكلم، في سيرتَين متكاملتَين عن المكان والتاريخ، من جهة ثانية.
وذاك، في نهاية المطاف، المشروع الوحيد الذي يليق بشاعر أُلقيت على كاهله ــ شاء الأمرَ أم أباه، سَعِدَ به أم كرهه ــ أثقالُ التقاط الوجدان الجمعي لأمّة بأسرها.

تقرير تابعته الاشراق للكاتب صبحي حديدي

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP