بين التفاوض والأهداف.. الغموض الإيراني الفاعل

ishraq

الاشراق

الاشراق | متابعة.

حتى اليوم، لم يتغيّر الموقف الإيراني من المفاوضات النووية للعودة إلى خطة العمل المشتركة الشاملة، إذ إنَّ التصريحات التي تصدر دائماً عن المعنيين الإيرانيين لا تخرج عن سياق التعبير عن التمسك بخيار التفاوض بالتوازي مع الدعوة إلى ضرورة الالتزام التام ببنود الاتفاق. 

إنّ رؤية إيران لبرنامجها النووي لا ترتبط بإشكالية إمكانية حيازتها سلاحاً نووياً أو تطوير قدرات نووية ذات طابع عسكري، إذ إنَّ القيادة والسلطة تعبران دائماً عن التزامهما بفتوى المرشد المحرمة لحيازة سلاح نووي، إنما تتعلق بالمبدئية الإيرانية التي تقارب من خلالها علاقاتها الدولية وفق منطق عدم الخروج عن مسلمات احترام الحقوق والالتزام بحدود السيادة بمفهومها التقليدي بعيداً من أي تنازل أو تفريط. 

في هذا الإطار، لم تنظر الجمهورية الإسلامية إلى برنامجها النووي كمعوّق أساسي أمام تطبيع العلاقات مع الغرب، إذ إنَّ الوكالة الدولية للطاقة الذرية أصدرت عدداً كبيراً من البيانات التي تؤكّد سلمية البرنامج النووي الإيراني وتعاون إيران الجاد مع الوكالة. 

وإذا كان الطّرفان قد نجحا في الوصول إلى اتفاق عام 2015، فإنّ التوقيع الأوروبي والأميركي استند إلى قناعة أكدتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مفادها سلمية البرنامج وإمكانية البناء على تعاون بناء بينها وبين الجمهورية الإسلامية. وبطبيعة الحال، حين تم التصديق على هذا الاتفاق من خلال قرار مجلس الأمن 2231، فإن الدول الموقعة على هذا الاتفاق افترضت حلاً مستداماً لهذا الموضوع.

أما حين سحب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب توقيع بلاده على خطّة العمل الشاملة، فإنَّ السياقات التي برر من خلالها هذا الانسحاب استندت إلى موقع إيران الإقليمي وقدراتها الصاروخية والعملانية في الإقليم، وإلى تقدير مشوب بعدم الواقعية، أساسه إمكانية تطوير قنبلة نووية خلال وقت قصير، معطوفاً على يقينه بنية مبيّتة تخفيها القيادة الإيرانية. 

من ناحية الدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق، وخصوصاً فرنسا وألمانيا، لم يكن الموقف مطابقاً لقرار إدارة دونالد ترامب، إذ تم الاعتراض على الانسحاب الأميركي استناداً إلى قناعة ترى أن الإبقاء على وسيلة توافقية لمراقبة البرنامج النووي الإيراني سيكون أفضل من غيابها، إضافة إلى أن تحييد النووي الإيراني من التجاذبات الإيرانية الغربية قد يسمح بإمكانية فتح الملفات الأخرى. 

بمعنى آخر، لم تكن النظرية الأميركية في التفاوض مع إيران وفق منطق كل شيء أو لا شيء متوافقة مع نظيرتها الأوروبية التي يمكن ترجمتها في إطار الواقعية السياسية، وفق إستراتيجية "حافظ على المكتسبات وطالب بالمزيد"، إذ إنَّ التوقيع على الاتفاق والالتزام به لم ينسحب تهدئةً للجبهات بين الأطراف المعنية، ومنها الأوروبية المتمسكة بالاتفاق.

كثيرة هي الأحداث التي عصفت بالعلاقات الإيرانية الغربية في الفترة الأخيرة، وكان أهمها ما تعرضت له المنشآت النووية الإيرانية من تخريب سيبراني، إضافة إلى عمليات الاغتيال التي طالت رموزاً إيرانيين، كالعالم النووي محسن فخري زاده، وقائد "قوة القدس" في حرس الثورة الإيراني قاسم سليماني. 

وإذا أضفنا إلى ذلك المعارك التي يخوضها الغرب ضد الجمهورية الإسلامية بين الحروب التي تعصف بالمنطقة، من سوريا إلى العراق ولبنان مروراً باليمن، فإنَّ الادعاء الغربي بوجود مشروع إيراني امتدت أذرعه لتطال جبهة أوكرانيا، إذ نسب تصنيع الطائرات المسيرة التي يستخدمها الجيش الروسي ضد القوات الأوكرانية إلى الجمهورية الإسلامية.

في هذا الإطار، لم تكن الأحداث الأخيرة التي عبثت بالشارع الإيراني بعيدة من هذه المعارك، إذ عمد الغرب إلى دعم ما سمّاه بالاحتجاجات ضد النظام؛ فقد أطلق البيت الأبيض تصريحاً اعتبر فيه أنَّ الدبلوماسية حالياً ليست خياراً مع إيران بسبب قمع الأمن للاحتجاجات، بالتوازي مع فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على أكثر من 30 من المسؤولين البارزين والمؤسسات، وكذلك إصدار قرار في مجلس محافظي الوكالة الدولية رداً على ما يعتبره الغرب تعاوناً إيرانياً غير كافٍ مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن القضايا الجادة والمعلقة المتعلقة بالتزامات إيران القانونية بموجب اتفاقية الضمانات الخاصة بمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية.

في المقابل، تشكَّلت لدى القيادة الإيرانية، من خلال الاعترافات ومستوى التخطيط وإدارة عمليات الشغب والتخريب، بالتوازي مع السلوك الغربي، رؤية تؤكّد سردية تصنيف هذه الأحداث في إطار الحرب المستمرة على الجمهورية الإسلامية، إذ أجمعت السلطات الإيرانية على اعتبارها مخططاً خارجياً يستهدفها.

وبالنظر إلى الفهم الإيراني للكيفية التي يتعاطى الغرب من خلالها مع الدولة الإيرانية، ومع ضرورة التفريق بين المحافظين والإصلاحيين، إذ إنَّ التيار المحافظ الذي يحكم منذ 2021، حين وصل إبراهيم رئيسي إلى الحكم، لم يكن يرى في المفاوضات سبيلاً واقعياً، ذلك أنها، من وجهة نظره، تحدث تحت ضغط الغرب وسلاح عقوباته المعقدة، فإنَّ المنطق يفترض عكس ما أشرنا إليه في بداية حديثنا لجهة التزام الموقف الإيراني المتمسك بالتفاوض والحوار، وإن كان وفق الشروط التي وردت، أي المصلحة والسيادة بمفهومها التقليدي.

ولكنَّ المفارقة، وعلى الرغم من اليقين الإيراني بأن الاحتجاجات في المدن الإيرانية مع ما رافقها من إرهاب وقتل ليست إلا خططاً غربية لإسقاط الجمهورية الإيرانية إذا أمكن، أو إضعافها بما يجعل إمكانية إخضاعها أسهل، هي أنّ الجمهورية الإسلامية لم تتخذ ما يمكن تصنيفه قراراً ذا لون محافظ يعبّر عن رد فعل مباشر على الأهداف الحقيقية للحراك، إذ إنَّها ما زالت مصرة على التفاوض وأهمية التزام الاتفاق النووي كسبيل وحيد لحلّ إشكالية علاقاتها مع الغرب.   

هذا من حيث الشكل. أما إذا تعمّقنا في محاولة تقدير الموقف الإيراني الحقيقي، فإن السلوك الإيراني لا يدلّل على تقبل أي تداخل بين علاقاته الخارجية وشؤونه الداخلية، فالتعاطي الإيراني مع الحراك يؤكد عزل آليات المعالجة عن التأثيرات الخارجية، إذ يتم التعاطي معه وفق سياق الحزم وعدم التردد في ضرب غرف عملياته حيث وجدت، داخل الحدود الإيرانية أو خارجها.

من ناحية أخرى، أعلنت الجمهورية الإسلامية الإيرانية تطوير صاروخ فرط صوتي صنفته القوى الغربية والكيان الإسرائيلي ضمن الخطوط الحمر التي نجحت إيران في تخطيها. وإذا كان من الممكن أن نقدّم قراءة سياسية لهذه التجربة، بعيداً من النجاح التقني العسكري، فإنَّ في هذه التجربة قراراً إيرانياً برفض أيّ محاولة لإدخال قدراتها الصاروخية في بازار التفاوض مع الغرب.

كما أنَّ توقيتها، في وقت بدأت المراهنة على إمكانية نجاح أعمال الشغب في الداخل الإيراني، يؤكد أنَّ الجانب الإيراني قادر على أن يعزل أعمال الشغب ويمنع تأثيرها عن المسار الإستراتيجي الإيراني.

من خلال ما تقدم، يمكن القول إنَّ الجانب الإيراني لا يقارب التفاوض مع الغرب وفق رؤية مبسطة تقدم للغرب تطميناً حول إمكانية تخلي الجمهورية الإسلامية عن الخطوط الحمر، إذ إنَّ الهدف من التفاوض قد لا يكون إلا محاولة إيرانية لدفع الغرب نحو ضرورة الاختيار بين خيارين لا ثالث لهما: إما التسليم بالحقوق الإيرانية وضمان موقعها السيادي الحيوي، وإما الانسحاب من التفاوض بما يؤكّد السردية الإيرانية القائلة إن الغرب لا يريد التفاوض مع إيران إلا على كيفية استسلامها.   

تقرير للكاتب وسام اسماعيل

لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP