فيلم «شاهد الادعاء».. نقطة تحول في تاريخ صناعة السينما

ishraq

الاشراق

الاشراق | متابعة.

يعتبر فيلم «شاهد الادعاء»Witness For The Prosecution (1957) أشهر الأعمال السينمائية التي اقتبست من عمل للكاتبة البريطانية أجاثا كريستي، وتعتبر رواياتها الأكثر مبيعا في العالم. ويمثل الفيلم مثالا فريدا في الأسلوب الفريد من نوعه للمخرج الأمريكي بيلي ويالدر Billy Wilder. وكان الفيلم من بطولة الممثل البريطاني تشارلز لوتن Charles Laughton والأمريكي تايرون باور Tyrone Power والألمانية مارلين ديتريتش Marlene Dietrich.

أحداث الفيلم

تدور أحداث الفيلم في العاصمة البريطانية لندن في بداية خمسينيات القرن العشرين، حيث يُتَهَم الشاب الإنكليزي «لنرد فَول» (تايرون باور) بقتل امرأة ثرية وكبيرة في السن في منزلها. وكان قد تعرف عليها بالصدفة، وتوطدت علاقتهما وأخذ يزورها في المنزل أكثر من مرة في الأسبوع، دون أن تكون علاقتهما أكثر من ودية، على الرغم من أن المرأة كانت في الواقع مغرمة به.
اتهمت الشرطة «لنرد» لكونه آخر من زار الضحية في منزلها وعثورها على سترة ملطخة بالدماء في منزله، كما أن الضحية أوصت أن يرث المتهم أغلب ثروتها. ادعى «لنرد» أنه وصل منزله في الساعة التاسعة وست وعشرين دقيقة ليلا، وأن زوجته (مارلين ديتريتش) تستطيع تأكيد ذلك، ولذلك فإنه كان في المنزل قبل وقوع الجريمة. أما سبب توطيد علاقته بالقتيلة، فقد ادعى أنه كان يحاول الحصول على تمويل لعمل تجاري صغير ينقذه من حالة الإفلاس الشديد التي كان يعاني منها. كانت زوجة «لنرد» أكبر منه سنا بوضوح. وكان قد تعرف عليها في مدينة هامبورغ الألمانية عام 1945 حيث كانت تعمل مغنية في حانة سيئة السمعة وقضت معه ليلة في مسكنها مقابل علبة قهوة.
لجأ «لنرد» إلى ثلاثة من المحامين الكبار، لاسيما المحامي الأرستقراطي الشهير «ويلفريد» (تشارلز لوتن) الذي كان يعاني من مشاكل في القلب، وكانت ممرضته (أيلزا لانكاستر) تضايقه باستمرار وترافقه أينما ذهب، كي يحافظ على صحته. وكان الانطباع الواضح الذي تركه «لنرد» لدى المحامين شخصيته بالغة الودية، ولم تكن هناك أي شائبة في تاريخه، وألقت الشرطة القبض عليه في مكتب محاميه الشهير. يقابل المحامي «ويلفريد» الزوجة، وإذ به يجد نفسه أمام أمرأة صلبة قاسية الفؤاد، صدمته عندما قالت إنها ستشهد في المحكمة كما يريد زوجها بغض النظر عن الحقيقة، ما يثير دهشة المحامي «ويلفريد».

تحقيق العدالة

لم تسر المحاكمة كما أراد المحامون، إذ ذكرت خادمة القتيلة أنها سمعت صوت المتهم يتكلم مع القتيلة حوالي الساعة التاسعة والنصف، ومع ذلك نجح المحامي في زرع الشك في صحة ما سمعته. لكن الصدمة أتت من الزوجة حيث ذكرت أن «لنرد» أتى إلى المنزل في الساعة العاشرة وعشر دقائق، كما أثارت دهشة الجميع عندما كشفت أنها ليست زوجته أصلا، حيث خدعته بزواج باطل لأنها كانت متزوجة أصلا من رجل ألماني. وأثارت هذه التطورات قلق المحامي وفريقه، إذ أصبح جليا أن مصير المتهم الإدانة والإعدام. لكن الأمر ـ أخذ منحى مختلف عندما اتصلت امرأة مجهولة ذات لكنة غريبة بالمحامي «ويلفريد» عارضة عليه رسائل غرامية كتبتها الزوجة لعشيقها وتذكر في إحداها أنها ستشهد أن زوجها قد وصل المنزل في الساعة العاشرة وعشر دقائق للتخلص منه. وقابلها المحامي كما أرادت المرأة، وبينت له أن حبيبها المجرم على علاقة بالزوجة، وباعته رسائلهما الغرامية. وجعلت هذه الرسائل الزوجة تبدو في المحكمة وكأنها تكيد للإيقاع بزوجها. ونتيجة لذلك، حصل «لنرد» على البراءة وسط علامات الاستحسان والتشجيع من الحاضرين في قاعة المحكمة.


المحامي ويلفريد (تشارلز لوتن) و ممرضته المزعجة (أيلسا لانكاستر)

ووصل حماس الجمهور إلى درجة مهاجمة الزوجة خارج قاعة المحكمة، لكن الشرطة أنقذتها وأعادتها إلى قاعة المحكمة. وهناك وجدت نفسها أمام المحامي في القاعة الخالية. وتكشف الزوجة للمحامي أنها كانت المرأة التي أعطته تلك الرسائل، وأنها قامت بتلك الخدعة لإنقاذ زوجها، لأنه كان فعلا من ارتكب تلك الجريمة، إذ أنها مستعدة أن تفعل كل شيء من أجله حتى إذا زج بها في السجن بتهمة الكذب في المحكمة، أو أسوأ من ذلك، ما جعل المحامي يستشيط غضبا. ودخل «لنرد» القاعة وأكد أنه القاتل فعلا، فحسب القانون البريطاني لا يمكن محاكمة شخص للجريمة نفسها مرتين. وتفاجأ الجميع بدخول فتاة شابة جميلة إلى القاعة وأخذها «لنرد» في الأحضان. وسألته زوجته عنها، وكان جواب «لنرد» أنها حبيبته وأبلغ زوجته نهاية زواجهما المزعوم، فكما أنقذ زوجته من خراب ألمانيا، قامت هي بإنقاذه من حبل المشنقة، وبذلك فقد انتهى أي التزام بينهما. ولم تصدق الزوجة ما سمعته، خاصة بعد كل التضحية التي قامت بها من أجله، فهجمت عليه وطعنته بسكين ليموت في الحال. وهنا قالت الممرضة «لقد قتلته» وأجابها المحامي «لقد أعدمته». وسرعان ما أبدى المحامي الشهير استعداده للدفاع عن الزوجة في محاكمتها.

تحليل الفيلم

لا يمكن أنكار كون الفيلم من أجمل الأفلام الغربية وأكثرها تشويقا في فترة الخمسينيات، بل إنه علامة فارقة في تاريخ السينما العالمية، فجودة التمثيل والأسلوب المبتكر في الإخراج كانا أهم سماته، ما جعل المشاهد متشوقا طوال الوقت وغير قابل للشعور بالملل لحظة واحدة، نظرا للتطور السريع والسلس للأحداث، على الرغم من نقاط الضعف في منطق القصة. ومن الممكن وصف الفيلم بأنه دراما بوليسية تخللتها لقطات فكاهية. ويعتبر هذا نوعا من المخاطرة في عالم السينما، حيث إن الجانب الفكاهي، مهما كان صغيرا، قد يقلل من تشويق الجانب الدرامي، إلا أن المخرج بيلي ويلدز نجح في محاولته، وأعادها في فيلم «الشقة» The Apartment (1960) الذي نال نجاحا كبيرا. وقد برزت عناصر التشويق في الفيلم إلى درجة أن الكثيرين في تلك الفترة ظنوا أنه كان من أخراج الفريد هيتشكوك، الذي عبّر عن انزعاجه من التهاني التي تلقاها من الكثيرين لنجاح وجودة إخراجه.
صور الفيلم بالأبيض والأسود، على الرغم من أن الأفلام الملونة كانت موجودة في تلك الفترة، وقد يكون السبب تقوية التأثير الدرامي والمكياج المستعمل لتغطية تجاعيد الممثلة الألمانية مارلين ديتريتش، ففي إحدى اللقطات يظهر وجه ويد الممثلة عن قرب وكان واضحا أن يدها كانت لامرأة متقدمة في السن بينما خلا وجهها من التجاعيد. لكن دور المكياج كان أبلغ وضوحا عندما ظهرت مارلين ديتريتش في دور المرأة الغريبة التي قدمت الرسائل إلى محامي الدفاع، على الرغم من أن لكنتها بدت مصطنعة، فقد كان من غير الممكن تمييز المرأة.
برع كل الممثلين في الفيلم في أدائهم، على الرغم من غلبة الطابع المسرحي على طريقة التمثيل، لاسيما تشارلز لوتن في دور المحامي الأرستقراطي المثالي الذي تميز بكفاءته واستقامته. وعلى الرغم من صرامة هذا المحامي الكبير، فإنه في الحقيقة طيب القلب، ويحاول تحقيق العدالة قبل كل شيء. واستطاع تشارلز لوتن أن يبدو مقنعا جدا، سواء في المشاهد الفكاهية أو الدرامية، ولا غرابة في هذا، فقد كان فعلا أحد أعظم ممثلي السينما والمسرح في بريطانيا. وعلى الرغم من كونه الممثل الرئيسي في الفيلم بلا جدال، إذ كان في الأغلبية العظمى من مشاهد الفيلم، فإن الاسم الأول في قائمة الممثلين في بداية ونهاية الفيلم كان لتايرون باور، وتلاه اسم مارلين ديتريتش، بينما حل اسم تشارلز لوتن في المركز الثالث. وقد يكون السبب كون تايرون باور أحد أشهر ممثلي السينما الأمريكي في تلك الفترة، بل إن ذلك قد يكون سبب وجوده في الفيلم أصلا، حيث أن ذلك ضمن نجاح الفيلم أمريكيا. لكن في الوقت نفسه كان تايرون باور أحد أهم التناقضات الواضحة في الفيلم، فقد مثل دور الرجل الإنكليزي «لنرد» أي المتهم، إلا أنه تكلم الإنكليزية بلهجة أمريكية واضحة، وكانت طباع شخصيته أمريكية أيضا. لكن هذا لم يكن عائقا بالنسبة للفيلم، إذ تجاهل الجمهور هذا الشيء الغريب. وكان ذلك ربما مقصودا لإرضاء الجمهور الأمريكي.

المشاهد الفكاهية

تركزت المشاهد الفكاهية على المشادات بين المحامي وممرضته، وبدت شبيهة بـ»دلع» بين زوج وزوجة. ولا غرابة في هذا، فالممثلة التي مثلت دور الممرضة كانت في الحقيقة زوجته أيلسا لانكاستر. وكان من المشاهد الفكاهية ذلك الذي بين احتفال موظفي المحامي الكبير عند عودته من المستشفى في بداية الفيلم، حيث سرعان ما يكتشف المشاهد أن سبب الاحتفال أن تقاعد المحامي عن العمل لأسباب مرضية سيعني إغلاق المكتب وفقدان هؤلاء الموظفين عملهم.
لم يتساءل أحد عن كيفية استعانة المتهم تايرون باور بأشهر المحامين في بريطانيا، على الرغم من إيضاحه لهم أنه كان مفلسا. ولم يكشف الفيلم كذلك كيف عرفت الشرطة بوجود المتهم في مكتب المحامي عندما أرادت اعتقاله. وفي الواقع أن عملية القبض كانت مؤدبة بشكل غير عادي، وبدت الشرطة البريطانية بالغة التحضر. وكان الفيلم دعاية للأجهزة الأمنية والقضائية الإنكليزية وامتلأ برموزهما، خاصة بالنسبة لاتباع الإجراءات القانونية وأدب العاملين فيهما. ومع ذلك، فإن مقارنة متعمقة في الواقع توضح أن الإجراءات في هذا الفيلم لم تكن دقيقة، فلا يسمح للدليل بأن يقدم في المحكمة دون دراسة وافية من قبل الادعاء والدفاع، ولا تكثر التعليقات الساخرة بينهما أثناء المحاكمة. ومن الجدير بالذكر أن محامي الدفاع قد لا يسمح له بالدفاع عن الزوجة في هذه الحالة، لأنه قد يستدعى للشهادة، لأنه طرف في القضية. أما بالنسبة لقانون عدم محاكمة المتهم مرتين للجريمة نفسها، فقد ألغي في بريطانيا مؤخرا.


الزوجة الألمانية (مارلين ديتريتش) تشرح للمحامي الكبير (تشارلز لوتن) كيف خدعت الجميع

على الرغم من روعة الفيلم لاسيما في نهايته، فإن المخرج ربما أخطأ عندما عبّر المحامي قبل انكشاف الحقيقة عن شعوره بخطب ما في نتيجة المحاكمة، إذ قلل هذا من تأثير صدمة ظهور الحقيقة. كان التعاطف مع الزوجة الألمانية في نهاية الفيلم واضحا بسبب قتلها المتهم، وكأنها نفذت العدالة الإلهية. لكنها في الحقيقة لم تكن مختلفة عن زوجها، حيث ارتكب الاثنان جريمتيهما لأسباب شخصية بحتة، وليس لتحقيق أي عدالة.
لا يمكن الاستهانة بتأثير اسم أجاثا كريستي كدعاية للفيلم، بالإضافة إلى أسماء المخرج والممثلين. لكن القائمين على الفيلم ابتكروا فكرة جديدة للدعاية للفيلم، وهي الطلب في نهاية الفيلم من المشاهدين بعدم البوح بنهاية الفيلم لأحد بعد خروجهم من صالة السينما. ولا يمكن التوقع أن الأغلبية العظمى من المشاهدين سيأخذون هذا الطلب على محمل الجد، بالإضافة إلى أن النهاية معروفة سلفا بسبب شعبية المسرحية التي أخذت منها قصة الفيلم والمقالات الكثيرة التي نشرت عنه.

تاريخ الفيلم

قامت الكاتبة أجاثا كريستي بنشر القصة الأصلية للفيلم كقصة قصيرة في مجلة بريطانية عام 1925 ونالت نجاحا كبيرا، ثم نشرتها ضمن مجموعة قصصية عام 1933. ولم تكن القصة الأصلية مطابقة لقصة الفيلم، حيث كانت عن الزوجة الألمانية دون أن يكون للمحامي أي دور بارز، ولم يقتل المتهم في النهاية. وفي عام 1953 قامت أجاثا كريستي بتحويل القصة إلى مسرحية. ويقال إنها ضاقت ذرعا بقيام كتاب آخرين بتحويل رواياتها إلى مسرحيات، فقامت بذلك بنفسها هذه المرة، بعد أن غيرت النهاية وجعلت المسرحية تركز أكثر على محامي الدفاع. ونالت المسرحية نجاحا كبيرا في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. ويمثل هذا تطور الكاتبة «أجاثا كريستي» في قدراتها الأدبية حيث كانت المسرحية أفضل بكثير من القصة القصيرة الأصلية.
عندما قام المخرج بيلي وايلدر بتحويل المسرحية إلى فيلم، حرص على التركيز أكثر على محامي الدفاع، وجعله بطل الفيلم بينما قلل من دور الزوجة الألمانية، وأضاف دور الممرضة لإضفاء بعض الفكاهة على الفيلم. وعلى الرغم من تلك التغييرات عبرت الكاتبة البريطانية الشهيرة بعد ذلك عن اعتقادها أن هذا الفيلم كان أفضل ما اقتبس عن أعمالها. كان الفيلم بالغ الأهمية للممثل تشارلز لوتن، فبعد تجربته في الإخراج في فيلم «ليلة الصياد» The Night of the Hunter الذي فشل تجاريا، كان في حاجة ماسة لنجاح سريع وكبير، وهذا ما حققه فيلم «شاهد الادعاء». أما تايرون باور، فكان هذا الفيلم فيلمه الأخير حيث توفي بالسكتة القلبية أثناء تصوير فيلمه التالي في مشهد مبارزة مع الممثل جورج ساندرز. وكان في سن الرابعة والأربعين.
أعيد إنتاج الفيلم وعرض عام 1982، لكنه لم يرق إلى مستوى الفيلم الأصلي. ويثير هذا الإنتاج الثاني الاستغراب، حيث يعطي الانطباع بأن التقدم التقني في صناعة السينما صاحبه تدهور في مفهوم الإخراج. وبالنسبة لمسرحية أجاثا كريستي الأصلية، فنجاحها ما يزال مستمرا، إذ ما تزال تعرض في المسارح الغربية بين الحين والآخر.

تقرير للكاتب زيد خلدون

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP