"آخر مرة" لوفاء الطبوبي: ليتوقف صراع الرجل والمرأة

ishraq

الاشراق

الاشراق|متابعة 

حصدت الجائزة الأولى في مهرجان قرطاج، وأثارت النقاشات حول الصراع بين المرأة والرجل.. ماذا قالت المخرجة وفاء الطبوبي عن مسرحيتها؟

كتبت المخرجة وفاء الطبوبي نص مسرحية "آخر مرة" أيضاً، وقد ارتكزت العملية الإبداعية منذ البداية على تصوُّرٍ ذهنيٍّ لفعلٍ مُمَسرحٍ، إذا أخذنا بعين الاعتبار أنَّ النص المسرحي لا يُنتج معناه كاملاً إلا بتنفيذه على الخشبة، وتفاعُل المشاهد معه عبر المرور بأجساد الممثلين، باعتبارها أدواتِ تنفيذٍ مُخلِصةٍ لجوهر الفكرة الأم التي يتمحور حولها هاجس المخرجة. 

فاللفظي في هذا السياق جزءٌ داعمٌ للعنصر الكوريغرافي والسينوغرافي، ممّا يجعل من الممكن استخدام أداة الحوار عبر بناءِ معانٍ تتماهى مع طبيعة الشخصيات التي تلعب أدواراً مختلفةً، لكنها تبقى في هامش البحث عن التفريغ النفسي لسوء فهمٍ كبيرٍ يَسِمُ علاقة المرأة بالرجل.

وتبدو النظريات النسوية المُقصية للذكر غيرَ واضحةٍ في المسرحية، إذ ثمّة نزوعٌ نحو استبدالِ واقعٍ ضارٍ بآخرَ أقلَّ توحشاً وأكثرَ ديمومةً، بهدف بناءِ علاقاتٍ مرمَّمةٍ وصحّيةٍ، إذ لا وجودَ لجسدٍ وذاكرةٍ سعيدةٍ من دون المرور بأعطابِ التصادمِ في الخطاب وفي الفعل. 

ينهض هذا العمل المسرحي على مشهديةٍ قاسيةٍ، تتبلور عبر سياقاتٍ ذاتِ طبيعةٍ تصاعديةٍ، تنتهي دائماً بعنفٍ يصل إلى محاولة اغتصابِ وقتلِ وإقصاءِ الآخر، مصدرِ الألمِ والتوازنِ معاً، لكنّه لا يخلو من التعبير عن الجسد كمصدرٍ للطاقة والحياة في أبلغ تجلّياتها المؤنَّثة، وهي الدفاع عن النفس وتمرير حقلٍ دلاليٍّ مشحونٍ بالأنا المتشبّثة بحياةٍ أقلَّ حزناً، وأقلَّ هوساً بالدفاع عن وجهةِ نظرِ كلا الطرفين: رجل/امرأة. أنثى رحم وجسد مشتهى/ذكر فحولة مضطربة وغارقة في البحث عن الأنثى التامّة، الخالية من النقائص التي زرعتها  طبيعة العيش المشترك. أمّ حانية وقاسية في آنٍ واحدٍ/ابن خرج من عباءة أوديب ليخطَّ قدراً خاوياً من أيِّ هدفٍ أو رغبةٍ في التواصل، وبالتالي كسر جسرِ الحبل السري، ومحاولة الولادة من جديد، حتى لو كانت هذه الولادة مشوَّهةً، وتتطلَّب قتل الأمّ ذهنياً وبتر وظيفتها الحمائية. 

تبدو النظريات النسوية المُقصية للذكر غيرَ واضحةٍ في المسرحية، إذ ثمّة نزوعٌ نحو استبدالِ واقعٍ ضارٍ بآخرَ أقلَّ توحشاً وأكثرَ ديمومةً، بهدف بناءِ علاقاتٍ مرمَّمةٍ وصحّيةٍ، إذ لا وجودَ لجسدٍ وذاكرةٍ سعيدةٍ من دون المرور بأعطابِ التصادمِ في الخطاب وفي الفعل. 

ثلاث لوحاتٍ تلعب فيها "هي" دور الأخت والأم والزوجة والموظفة المضطهَدة، ويلعب فيها "هو" دور الزوج والأخ ورئيس العمل والابن المُحبَط. تتشابك الأجساد كما تتشابك المصائر. هناك حياةٌ لا وجود لها إلا إذا حُكِيت حسب قول بول ريكور. وهذا التباين بين الموقفين لدى المرأة/الرجل، يعاضده تباينٌ حركيٌّ. 

الطريق إلى الكلمات يمرُّ عبر الأشياء  
تتوفر عناصر الفرجة في "آخر مرة"، على الرغم من تقشّف المخرجة المدروس، لإضفاء أهميةٍ قصوى على الخطاب، باعتباره أحد العناصر الداعمة للخيال، وللدهشة والإقناع معاً، فتظهر "هي" الخالية من الاسم استعارةً لهويةٍ فضفاضةٍ، يمكن أن تجمع جميع النساء، وتظهر البطلة مريم بن حميدة لاهثةً وزافرةً، تروح وتجيء وتقاوم وتلعب وتستغلُّ كامل فضاء خشبة المسرح، كأنّما تحوّل المكان إلى حقلٍ دفاعيٍّ مؤنَّثٍ، يُبرر الممرات التي تتغير فيها مستويات الصراع مع البطل أسامة كشكار، وكأنّما أصبح الزمان كلّه لحظةَ مكاشفةٍ وبوحٍ ودفاعٍ، يتبعها إنارةٌ وعتمةٌ وموسيقى حادَّة، تُلقي بظلالها على هواجس المتفرّج، انتظاراً لحدثٍ ما قد يُنهي مسرحيةً مفتوحةً على تأويلاتٍ شتّى. 

تُحيل "آخر مرة" في المخيال الجَمعي التونسي إلى عدم تكرار التجربة، بسبب الخوف من العقاب أو تهديداً بخيبةٍ ما لاحقة، أو اكتفاءً بما لحق بالنفس من غِنى التجربة. 

تتدافع طاولةٌ وكرسيان لتأثيث اعترافات جسدين وعالَمين، جمع بينهما سوء الفهم الكبير. تأخذ هذه العناصر شكلاً وغرفةً وكرسيَّ اعترافٍ، أو مكتباً ومؤسَّسة عملٍ وسريرَ بروكوست. على "هو" أن يبتر جزءاً من وهم تفوّقه لترميم النِّدِّية مع "هي"، وهو ما نجح فيه الممثل، الذي اعتمد على تطويع جسده لتمرير فكرة العنفوان والرغبة والشعور بالامتلاء وبالخواء معاً، حيث تظهر هشاشة توقُّع النهايات، فتنقلب المواقف مع "هي" التي تتشبث بذاتيتها  المقاوِمة.

لا وجود لمستقبلٍ من دون التعايش بين الانشطارات   
إذا كان المربع اختراعاً بشرياً، عكس الدائرة التي يؤثِّثها الضوء في المسرحية، وهي ذات رمزية عالمية كأول اختراعٍ خطّه الإنسان باعتباره يشير إلى القداسة واللانهاية وكشف الحقيقة، حسب كارل غوستاف يونغ، فإنَّ هذا المربع هو الكون كما يتخيله البشر.

العلاقات مبنيّة على الحواشي ومحاولة تفسير المعاني التي تحمل أكثرَ من مدلولٍ. من هذا المنظار يمكن فهم عنوان "آخر مرة"، الذي يحمل تضادّاً موغلاً في التشظّي؛ فتشظّي المعاني كان مقدِّمةً لتشظّي العلاقة، وانشطار الذكورة والأنوثة بين الرغبة في التملّك والرغبة في تحقيق الذات، حيث أنَّ كلَّ تفكيكٍ هو قبل كلِّ شيءٍ عادةُ تأكيدٍ أصليةٍ، بحسب جاك دريدا.

تُحيل "آخر مرة" في المخيال الجَمعي التونسي إلى عدم تكرار التجربة، بسبب الخوف من العقاب أو تهديداً بخيبةٍ ما لاحقة، أو اكتفاءً بما لحق بالنفس من غِنى التجربة. لكنَّه عنوانٌ يُحيلنا أيضاً إلى لعبة "التارو"، في إحدى سوناتات جيرار دو نيرفال، مستحضِراً شخصية الملكة، وفي مستوى أعمق إلهة الخصوبة والإنجاب والعُذرية "أرمتيس"، المنتمية إلى الأولمبيين:

يقول الشاعر الثالثة عشرة تأتي 

أم أنّها ما تزال الأولى

ودائماً ما تكون اللحظة الوحيدة

لأنّكِ ملكةٌ يا أنتِ 

الأولى تكونين أو الأخيرة.

المسرحية في جوهرها لعب وتقمّص أدوار، والحياة ذاتها لعبة "تارو" يتداول على الفوز بها أبطالٌ من ورق، ومن لحم ودم، بينما لا تبدو تقمّصات الجميل في هذه الواقعية النابعة من تشنّجات الألم والحزن وارتطامات الأجساد، التي ضخّمتها المؤثرات الصوتية والمسرحية، مبنيةً على مثالٍ شكلي أو احترافي قديم، ولكنَّها انبنت على تشكُّل وعي أنثوي بعالمٍ قبيحٍ وتمثُّله حسياً، وإن كان المتخيَّل عن الفن، كما يقول هيغل، يُضفي إلى المضامين أشكالاً حسية، فإنَّ وظيفة المتفرّج أن يزيح العالم المتخيَّل ويجذبه نحو المعيش، لفهم سلسلة اعترافاتٍ لبطلين متغيِّرين يبحثان عن القوة، اتّقاءً لهشاشةٍ كرَّستها تواريخ مجتمعاتٍ ذكوريةٍ.

***

الطبوبي لـــ "الميادين الثقافية": المسرحية لا تندرج ضمن الخطاب النسوي السائد
حول مسرحيتها، تحدثت المخرجة وفاء الطبوبي إلى "الميادين الثقافية"، توضيحاً لمجموعةٍ من الأسئلة التي توجّهنا بها إليها:

- كيف وظَّفتِ السينوغرافيا للتعبير عن موضوع المسرحية؟ 

ارتكزت السينوغرافيا إلى منطق خلق فضاء مغلق، تسكنه شخصيتان لا ثالث لهما، ولا يقدر أحد أن يقترب منهما، مما يجعل المتفرّج وكأنّه يشاهد من الأعلى ما يقع في تلك العلبة المغلقة من جميع الاتجاهات .

- لماذا تبدو شخصية المرأة مشحونة بالعنف، في العمل ومع شريكها ومع ابنها، خاصَّةً أنّها في بعض المواقف كائن انفعالي وهشّ، يخاف الزمن والوحدة والموت؟ 

المرأة مشحونة بالمقاومة لا العنف، أي أنّها ليست ارتكاسيّةً، بل إن تعرّضت لأيِّ نوعٍ من المضايقة ستدافع عن نفسها بما تملكه من قوة. إلا أنَّ العرض لم يتناول المرأة بل مجموعةً من النساء، وفي كلِّ لوحةٍ تتشخّص أمامنا وضعيةٌ ما، فنلاحظ أنَّ الأم في المشهد الثاني تحاول أن تمارس عنفاً معنوياً على ابنها وتستغلُّ هذا العامل.

يبدو أنَّ المسرحية لم تقدّم المرأة على أنَّها كائن هشّ كما ذكرتم، بل العكس تماماً، إذ طرحتها على أنّها كائن يناضل، والخطأ بشري ولا يتعلّق بجنسٍ دون آخر. والشخصيات ضحايا ومذنبون على حدٍّ سواء وبنفس الدرجة، والعنف يسكن كلَّ واحدٍ منهم، وهو يتشكّل في صورٍ عدّة، ومن الضيم ربطه بجندرٍ دون آخر، وهذا ما تسعى الحركة النسوية المتطرّفة إلى ترسيخه، من أنَّ الرجل هو الشيطان الأكبر، أما المرأة فهي الملاك الأبيض.

- هل تندرج هذه المسرحية ضمن الخطاب النسوي السائد في العالم الآن، أم أنّها نقد توعوي اجتماعي يفضح خلل العلاقات في تونس؟

أزعم أنّها لا تندرج ضمن الخطاب النسوي السائد، الذي يكرّس تلك القطيعة أو النزاع الوهمي بين الرجل والمرأة، وذلك التقسيم الجندري المزعوم.

ففي نهاية المطاف المرأة كائن بشري، إنسانٌ  كما الرجل، ولا يمكن لأيٍّ منهما أن يستغني عن الآخر، وعِوض التركيز على تلك القطيعة الوهمية، يجب التشابك والاتحاد لمقاومة المنظومة التي تنخر كلّاً منهما.

ومن هنا فإن المسرحية هي دعوةٌ إلى الحب ونبذ العنف والتعايش السلمي مع الآخر. هذا الذي يشبهني ويكمِّلني، فلا حياة بلا شريك، رفيق، صديق... وكلُّ الصراعات وهمية، إذ يصارع الإنسان نظيره لقتل الوحش الكامن فيه. هذا التنافر كان  بداية الحروب والصراعات والنفور. لا بُدَّ من قبول الآخر المختلف، وطرح السؤال: إلى أين نحن ذاهبون؟

- اشتغلتِ على الجسد في المسرحية، هذه الحركة التي لا تتوقف على امتداد لوحات المسرحية، هل هي إخفاءٌ لحركة ذهنية أخرى تعتمل في البطلة، لتخفي سلوكها المبني على ردود الفعل؟ 

الخِطاب الجسدي بارزٌ داخل العرض، ويمكن قراءته وتأويله سيميولوجياً، فهو لا يقتصر على ما هو منطوق، بل يتجاوزه إلى الكتابة بالأجساد داخل الفضاء، فتُخلق الفُرجة التي هي جوهر المسرح وكنهه، وتتجلى قداسة الجسد داخل العرض، فينطق ويعبّر عن مكنونه.

يستخدم الرجل عنفاً أقوى هو سلطة الكلمة، وهذه معادلة صعبة، إذ إنَّ الفكرة أقوى من ردِّ الفعل، وهنا يمكن أن نتحدّث عن تكاملٍ بين المرأة والرجل، فكلاهما له قوةٌ ذات طبيعةٍ خاصةٍ، وهذا عكس القراءة الأولى للنص المسرحي.

نلاحظ حضور العنف داخل المسرحية بصورٍ وأشكالٍ عدّة، فقد تمَّ طرح التحرّش الجنسي، والعنف الجسدي، وكذلك العنف اللفظي. إلا أنَّ التعايش بين الجنسين هو الحلّ، بالرغم من الفروقات والاختلافات المتعددة، إلا أنّها يمكن أن تمثّل عاملَ ثراءٍ لا تصادم بينهما، وكما ذكرتِ فكلاهما له قوة ذات طبيعة خاصة، وإن أردنا مقاومة العنف في جلّ أشكاله يجب مقاومته لدى الجنسين، فلا يرتبط الأمر بجنس دون الآخر.

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP