السوريّون وحوار "التكفير" وآثاره: الأضرار كارثيّة ولا يمكن حصرها

ishraq

الاشراق

الاشراق|متابعة 

كان سلاح التكفير وإجازة القتل والتدمير بلغةٍ دينية "مقدّسة"، واحداً من أمضى الأسلحة التي فتكت بسوريا وأهلها.

في أواخر عام 2015، كنت في عاصمة إحدى الدول الصغيرة الواقعة في أقصى غربي القارة الأفريقيّة، حين حضر إلى مكان إقامتي أنا وزميلي، إمام أحد أكبر المساجد في العاصمة. قال الشيخ الأفريقي بلغة عربيّة فصيحة بعد أنْ عرّف بنفسه، إنّه سمع بوجودنا هنا، وبأننا قادمون من "شام شريف" (لم أستغرب كثيراً استخدامه لهذه التسمية العثمانية القديمة، كنت قد سمعتها مرّات عديدة قبل ذلك، من مسلمين آسيويين صوفيين) وأراد مقابلتنا.

أخبرنا الرجل بأنّه أقام في العاصمة السورية دمشق سنوات قليلة لغرض تلقّي العلوم الشرعيّة، وأنّه تتلمذ على يد العلّامة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي. كان قد مرّ أكثر من عامين على اغتيال الشيخ البوطي، الذي استشهد مع أكثر من 40 رجلاً وشاباً وفتىً (بينهم حفيده) في تفجير إرهابي استهدفه، وهو يجلس أمام محراب "مسجد الإيمان" في حيّ المزرعة الدمشقي، يلقي درساً على تلامذته، وهو التفجير الذي خلّف أكثر من 80 جريحاً أيضاً.

لم يستطع الشيخ الأفريقي إخفاء علامات الغضب، وهو يسأل مستنكراً ومستغرباً عن الأسباب التي أدت ببلادنا ـ التي عَرف عن أهلها الوداعة والطيبة والتديّن الوسطيّ ـ إلى الحال هذه، وإلى الوضع الذي يُقتل فيه عالم دين كبير وعلّامة من وزن الشيخ البوطي، يبلغ الرابعة والثمانين من عمره، في محراب مسجد.


لم يكن الرجل يعرف أنّ "عالِماً" آخر له "وزن ثقيل" هو الآخر بين أتباعه ومريديه، ويبلغ السادسة والثمانين من عمره، هو من أجاز "مُقاتَلَة" الشيخ البوطي شخصيّاً، و"كلّ عسكريّ أو مدنيّ أو عالِمٍ أو جاهلٍ يُوالي النظام". وكان صعباً عليه أنْ يصدّق ذلك أو يفهمه، إذ لا وجود لـ "عالم دين" يمكنه أنْ يحمل وزر الإفتاء في قتل الأبرياء في رأيه، فكيف وبين هؤلاء الأبرياء عالمٌ جليل سمح مثل أستاذه الذي عرفه جيّداً واتّخذه قدوة.

كانت معضلة فهم واستيعاب هذه التناقضات القاتلة، قد فتكت بعقول كثير من السوريين قبل أنْ تبلغ مركز الغضب في رأس الرجل الأفريقي الطّيب، مثلما فتكت بأجساد عشرات الآلاف منهم أيضاً. وها هو النقاش يعود هذه الأيام ليضطرم كالنار بينهم على وسائل التواصل الاجتماعي، بعد إعلان وفاة الشيخ يوسف القرضاوي، الذي تحمّلهُ، هو وغيره، شريحة واسعة من السوريين، المسؤولية الدينيّة والأخلاقيّة عن استباحة دمائهم، وإباحة بلادهم أمام كلّ من أراد القتال والقتل.

وبالنسبة إلى السوريين عموماً، كانت الآثار المباشرة لمسألة "التكفير" على مجتمعهم وبلادهم ودمائهم خلال سِني الحرب الأولى خصوصاً، أكبر وأسرع ألف مرّة من أنْ تترك لهم مساحة لنقاشها واستيعاب أسبابها وأبعادها، فضلاً عن مواجهتها بالمنطق والحجّة والنصّ.

فقد كانت كتائب "الدُّعاة والمُفتين" (الذين لا ينتسبون إلى أيّ دار إفتاء تُخوّلهم إصدار الفتاوي على نحو رسميّ في أي بلد من البلاد العربية والإسلامية) تسير جنباً إلى جنب مع سرايا الإعلاميين والسياسيين الذين تكفّلوا بشقّ الطرقات وتعبيدها أمام كتائب المتطرّفين التكفيريّين القادمين من كل حدب وصوب للقتال في سوريا.

بل إنّ كثيراً من هؤلاء "الدّعاة" قد أكّدوا لأولئك المريدين والأتباع، أنّ أرض الشام هي موقع أقصر الطرق إلى الجنّة، وهذه الطريق لا يمكن بلوغها إلّا بقتل أكبر عدد من الجنود والمدنيين والعلماء السوريين الذين لا يتّفقون مع المشروع السياسيّ الذي تقوده الولايات المتّحدة الأميركيّة، وتموّله حكومات بعض الدول العربية (الخليجية منها بالدرجة الأولى) التي يعمل هؤلاء لديها، ويبثّون فتاويهم عبر أثير قنواتها الفضائية التي اختصّ بعضها بالتكفير وحده، وبتوزيع صكوك الغفران ورُخَص القتل بين السوريين وعلى مَنْ حضر.

صحيحٌ أن الغالبية العظمى من الشعب السوريّ، رأت أنّ "ثقافة التكفير" غريبة وجديدة ونزلت كالصاعقة فوق رؤوسهم، لكن المراقبين عن قرب، وأجهزة الدولة السوريّة أيضاً، كانوا قد انتبهوا إلى تغلغل الفكر التكفيري في المجتمع السوريّ قبل سنوات قليلة من الحدث الكبير، إذ بدأ ذلك بعد اجتياح جيوش الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها العراق واحتلاله، ثم تطوّر الأمر بعد اغتيال رئيس مجلس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري، وما رافقه وتلاه من تحريض سياسيّ وطائفي على الدولة السورية والمقاومة في لبنان، ثم بعد عدوان تموز 2006 الذي حققت فيه المقاومة اللبنانية الحليفة لدمشق وطهران نصراً كبيراً على جيش كيان الاحتلال الإسرائيليّ الموقت، وانفتاح الدول الخليجية وتركيا-إردوغان على دمشق، والذي كان جزءاً من المشروع الذي أفضى إلى 2011،كما كُشف لاحقاً، هذا الانفتاح الذي جلب معه العلاقات الطيبة وبعض الاستثمارات، وكثيراً من "الدعاة" الوهّابيين والإخوان، الذين بلغ بعضهم مدرّجات الجامعات السورية وألقوا "محاضرات" من على منصّاتها.

بل إنّ القرضاوي نفسه قدم إلى سوريا في تلك السنوات، وأشاد بالدولة السورية ورئيسها من دمشق قائلاً "نحن ممتنّون لسوريا وقائدها، أنها لا تزال تحتضن فصائل المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها "حماس" و"الجهاد" رغم كلّ الضغوط الأميركيّة" (لا يزال هذا الحديث منشوراً على الموقع الرسميّ للقرضاوي على شبكة الإنترنت).

ومن المفارقات الغريبة هنا، التي تكشف مقدار الزيف والتزوير الذي تعمّد بعض العرب صبّه فوق رؤوس السوريين لمصلحة أعدائهم، أنّ رئيس أكبر مركز عربيّ للدراسات، تحوّل لاحقاً إلى أهمّ "مُنظّر" لـ"ثورات الربيع العربي" في سوريا وغيرها، كان قد أسَرّ عام 2008 لرئيس تحرير صحيفة عربية معروفة، أنّه التقى مسؤولاً سورياً من الصف الأوّل، وأخبره الأخير بأنّ البلاد تواجه حالة ازدياد سريعة لمعتنقي الفكر الدينيّ التكفيريّ بين شرائح من مواطنيها، بسبب الانفتاح على دول الخليج، وأنّ الدولة السورية تحاول احتواء هذا الأمر من دون المسّ بالحرية الدينية، ليعود هذا "المُنظّر" عام 2012، ويسخر من "ادّعاءات" السوريين وجود تكفيريين في صفوف "الثورة"، متسائلاً ما إذا كان هذا التكفير قد "هبط فجأةً" ومن دون مقدمات على المجتمع السوريّ.

كان سلاح التكفير وإجازة القتل والتدمير بلغةٍ دينية "مقدّسة"، واحداً من أمضى الأسلحة التي فتكت بسوريا وأهلها، ولعلّ عودة النقاش بهذه القوة والغضب لمناسبة وفاة القرضاوي، وإعادة نشر فتاوى الأخير التي دعا من خلالها إلى إجازة قتل "ثلث الشعب السوريّ" في سبيل بلوغ الهدف الأسمى والمقدّس (السيطرة على السلطة في دمشق وتسليم قرارها لواشنطن، لا تحرير بيت المقدس أو الجولان من المحتلين الصهاينة)، تكشف نذراً يسيراً من التصدّع الهائل والضرر الذي لحق بالسوريين بسبب هذا السلاح التدميريّ الفتّاك، وتكشف أيضاً بعض التشوّه العميق والقبيح لدى شريحة أخرى عادت من جديد في المناسبة نفسها، لتدافع عن القرضاوي وفتاويه، وتشيد به وبأمثاله ممّن "وقفوا مع الشعب السوريّ".

هذا السلاح الذي أمرت الولايات المتحدة الأميركيّة حلفاءها في المنطقة باستخدامه ضد السوريين بأكبر كثافة ممكنة، كان قد استُخدم في ليبيا أيضاً (دعا القرضاوي الولايات المتحدة إلى الوقوف "وقفةً لله"، والمساعدة في قصف ليبيا في سبيل تمكين "الثوار" المؤمنين من السيطرة على السلطة هناك)، ليذهب بعد ذلك أحد أبرز "الدعاة" السعوديين (محمد العريفي) بلباسٍ عسكريّ إلى الحدود السعودية ـ اليمنيّة، ويُطلق قذيفة مدفع "مباركة" باتّجاه الأراضي اليمنيّة والشعب اليمنيّ، في إعلانٍ صريحٍ عن "قدسيّة" القتال ضد شرفاء اليمن (المسلمين) الذين يرفضون الانصياع لأوامر الولايات المتحدة وأتباعها في المنطقة. 

لا يمكن، حتى بعد سنوات طويلة من الآن، حصر الأضرار النفسيّة والمعنويّة والماديّة والآثار الكارثية التي لحقت بالمجتمع السوريّ، وبالمجتمع العربي والمسلم عموماً، بسبب اجتياح موجات التكفير والتكفيريين واستباحتهم لبلادنا ومجتمعاتنا. والأخطر من ذلك، أنّ جهةً أو مرجعيّة وازنة وقادرة، لم تستطع التقدّم لمواجهة ومحاكمة حامليّ هذا السلاح ومحاسبتهم، أو حتّى وقفهم عند حدّهم وكشف خطرهم القاتل على المجتمعات العربية والإسلامية، كما على الدين الإسلاميّ الحنيف نفسه.

وعلى الرغم من وجود محاولات حقيقية وصادقة جمعت وتجمع علماء مسلمين وغير مسلمين ومفكّرين إصلاحيين، بهدف جمع أهل الأمة على كلمة التوافق والتسامح والتآخي، ونشر الوعي بين صفوف الناس وبيان خطر التكفير وما يُسبّبه من فرقةٍ وأذى كبير على الأمة وقضاياها العادلة، إلّا أنّ الولايات المتحدة الأميركية، وحدها، من استطاع أنْ يُعطي بعض الحكومات الخليجية الأمر بالتوقف عن استخدام التكفيريين في هذه المرحلة، ووقف بثّ قنواتهم وفتاويهم، ووضعهم في السجن إلى حين حاجتهم وحاجة أفكارهم الكارثيّة في مشروعٍ آخر.

لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP