لماذا تحوّلت "تترات" مسلسلات مصرية إلى "غنوة"؟

ishraq

الاشراق

الاشراق|متابعة 

"اللي بنى مصر كان في الأصل حلواني".. لماذا لم تطمس الذاكرة بعض "التترات" القديمة؟


بدأت الأعمال الدرامية مع أول بثٍّ للتلفزيون المصري في العام 1960. تطوّرت مراحل "التترات" منذ ذلك التاريخ، بدءاً من شريط موسيقي تُعرض على الشاشة بالتزامن معه أسماء صُنّاع العمل، كمسلسل (القط الأسود – 1964) على سبيل المثال، وصولاً إلى شكله المتعارف عليه حالياً، والذي ظهر في أواخر السبعينيات، وتحديداً بعدما قرر الشاعر سيد حجاب والموسيقار عمار الشريعي أن يؤسِّسا فنّاً، يضعان أصوله ويطوّرانه، هو "فن التتر".

بقي عمار الشريعي متسيِّداً تلحين "تترات" الأعمال الدرامية، ومحافظاً على نصيب الأسد من الأعمال الناجحة، وإن شاركه في بعضها ملحنون كباراً، منهم ميشيل المصري، ياسر عبد الرحمن، وعمر خيرت. كما حاز رفيقه سيد حجاب النصيب نفسه من النجاح والمكانة، وإن زاحمه في الكتابة شعراء كبار، منهم عبد الرحمن الأبنودي، وأحمد فؤاد نجم.

ولكتابة "التتر" معايير مختلفة عن كتابة الأغنية بشكلٍ منفرد، فقد أكّد محمد عبد السلام، في كتابه "أشهر تترات المسسلسلات المصرية"، ضرورة أن يُعبِّر التتر عن أحداث المسلسل، أو على الأقل عن جانب من جوانبه، كما أنَّه من الطبيعي أن ينتمي إلى بيئة العمل نفسها.

وأضاف أنّه: "لا يجوز وصف تتر بالناجح إذا كان جيداً في المطلق فقط. ولكن بالإضافة لجودته يجب أن يناسب طبيعة العمل".
من جهته، يؤكّد الشاعر إبراهيم عبد الفتاح، في حديثٍ لـ"الميادين الثقافية" أنَّ "كتابة الأغنية المنفردة ليس لها شرط معين أو سقف واضح، فأنت حرٌّ فيما تقول، وفي الطريقة التي تقول فيها، أما كاتب "التتر" فهو محكومٌ بالعمل الدرامي".


وأوضح عبد الفتاح أنَّ "على الشاعر توصيل رسالة العمل الدرامي من خلال كلماته المُغنَّاة، وذلك بالإضافة إلى رؤية المخرج، ودور المؤلف في توضيح شخصيات العمل وتطوّرها الدرامي"، مضيفاً أنَّ: "صناعة موسيقى التتر أو تلحينه أمرٌ لا يقلُّ أهميةً عن الكلمة المكتوبة، بل هو ما يبعث فيها الروح، ويُسيّرها إلى المستمع أغنيةً مكتملةً".

بدوره، يقول الملحّن الشاب شادي مؤنس، في حديثٍ لـ"الميادين الثقافية" إنَّ "الدراما هي التي تخلق موسيقاها، حيث إنَّ بيئة العمل هي التي تحدِّد اللحن المناسب، بل وتختار أيضاً الآلات التي تُعبّر عن تلك البيئة"، مشيراً إلى أنَّ "هناك مقامات موسيقية تُستخدم بكثرة في صعيد مصر والدلتا، ولذلك على الملحّن استحضارها إن تعلّقت ببيئة العمل الدرامي، مستعيناً ببعض الجمل اللحنية من بيئتها أيضاً، إن تحتّم ذلك".

الموسيقار الشاب الذي وضع عدداً من الألحان، كان آخرها لحن تتر مسلسل "جزيرة غمام"، الذي عُرِض في رمضان 2022، يرى أنَّ "الموسيقى التصويرية لا بُدَّ أن تخدم المشهد الدرامي، بحيث تصبح ترجمةً صوتيةً للصورة المرئية، ما يزيد إحساس الممثل بالمشهد".

إبراهيم عبد الفتاح: رحيل جيل الروّاد كشف الانهيار
بالعودة إلى السؤال بشأن تراجع الاهتمام بكتابة "التتر"، وضعف الكلمة المُغنَّاة، يرى الشاعر إبراهيم عبد الفتاح أنَّ البداية كانت بانتهاء جيل الروّاد، أمثال الأبنودي وحجاب ونجم، ولا سيما بعدما لجأ صُنّاع الأعمال الدرامية إلى بعض شعراء الأغنية، الذين تعاملوا مع "التتر" بمنطق "الغنوة".

ويتابع صاحب الرصيد الكبير في كتابة "التترات" للأعمال الدرامية، مثل مسلسل "الجبل" و"ريش نعام"، و"جزيرة غمام"، أنَّ "شعراء الأغنية هؤلاء لم يكن لديهم دأب جيل الروّاد، بل ما يسعون إليه هو صنع أغنيةٍ توضع على منصات الأغاني والتطبيقات التي تبثّها، ما يعني أنّهم انصرفوا عن الكلمة التي تحمل قيمةً، إلى هدفٍ آخر تجاري".

وبشأن ارتباط الجماهير بأغاني المسلسلات القديمة، يحكي عبد الفتاح عن تأثره الشديد بـ"تتر" قديم للشاعر سيد حجاب، هو "تتر" مسلسل "أديب". كان ذلك في العام 1981، حين كان يقضي فترة تجنيده، فهو لا ينسى وقوفه في برج الحراسة، بينما يهوّن خدمته بتلك "الغنوة".

وأزاي نطولك والقلوب مجاريح".

لم يهرب لحن عمار الشريعي من ذاكرة عبد الفتاح، ولم ينسَ كلماته، كما لو كان يسمعه الآن. يعلل سبب ذلك بكون كُتّاب أغاني المسلسلات القديمة جاؤوا من عالم الشعر إلى الكتابة الدرامية، ويوضح أنّه "عندما يكتب عبد الرحمن الأبنودي، أو سيد حجاب، أو أحمد فؤاد نجم، أغنية لعمل درامي، فهم في الأساس مُحمَّلون بمخزونٍ ثقافي يؤهّلهم للتعامل مع العمل الدرامي باحترافيةٍ شديدةٍ".

ويتابع عبد الفتاح أنَّ "صُنّاع الدراما كانوا يعتبرون "التتر" مكوِّناً شديد الأهمية، في حين اقتصر الآن على دورٍ استهلاكي ترويجي، فليس شرطاً أن ترتبط الأغنية بالعمل بأيِّ شكلٍ أو معنى، بل يكفي أن تُعرِّف الناس بموعد عرضه، أي أنّه أصبح يؤدّي دوراً ليس منوطاً به".

ويردف أنّ ثمّة عاملاً آخر تسبب في تراجع انتشار "التتر"، هو "تعدد قنوات البث، الذي أتاح التنقّل بين الأعمال الدرامية المختلفة، من دون انتباهٍ كافٍ له، ما لم يكن هناك عملٌ طاغٍ جماهيرياً، أما قديماً فتسبب اقتصار القنوات التلفزيونية على اثنتين في أن يستمع للتتر أكبر عددٍ من المشاهدين".



من جانبه، يرى الموسيقار شادي مؤنس أنَّ "السبب في تعلّق الناس بموسيقى التترات القديمة، أنَّ صُنّاعها من الموسيقيين العظام كانوا يسعون دائماً إلى خلق موسيقى مصرية خالصة"، مضيفاً أنَّ "موسيقاهم كانت تشبه الناس وحياتهم، ولذلك صدّقوها، وتلمّسوا فيها حقيقتهم، وظلّت في ذاكرتهم، فنحن في النهاية نصنع موسيقى لمصريين، لا نصنعها لجمهور من الهنود أو الإسبان".

واستطرد مؤنس قائلاً: "لكي ينجح التتر لا بُدَّ من أن تخرج موسيقاه من صلب بنائه الدرامي، أن تُشتق الألحان من روح شخوصه، من خيرهم وشرهم وصراعهم، لا أن تكون الأحداث في عالمٍ، والموسيقى في عالمٍ آخر".

ويختتم شادي مؤنس حديثه لـ"الميادين الثقافية" بالقول إنَّ "وضع لحنٍ لعملٍ درامي هو أمرٌ في غاية الصعوبة، يحتاج إلى كثيرٍ من السعي والاجتهاد، وأيضاً إلى محاولاتٍ طويلةٍ تتضمن التعديل والحذف والإضافة، لكن هناك في النهاية عاملٌ خفي يحكم حسبة النجاح، يمكن أن نسمّيه الرزق إن شئنا". 

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP