الأزمة الأوكرانية.. تمرين على عالم متعدّد الأقطاب!

ishraq

الاشراق

الاشراق | متابعة.

يخاطب أنطوني شيخوف في نهاية رائعته "المغفّلة" مربية أولاده التي سلبها معاشها يوليا فاسيليفنا: لماذا لا تحتجّين يا يوليا؟ لماذا تسكتين؟ هل يمكن في هذه الدنيا ألا تكوني حادة الأنياب؟ هل يمكن أن تكوني مغفّلة إلى هذه الدرجة؟

ما ينطبق على مربية أبناء شيخوف ينطبق على هذا العالم اليوم، فمنذ 32 عاماً، تستبيح واشنطن الكوكب، وتحتل الأرض التي تريدها، وترضى عمن تشاء، وتقلب النظام الذي لا يناسب مصلحتها، وتحاصر وتقتل وتجوّع من دون رحمة ولا شفقة، وتنشر قواعدها العسكرية الثمانمائة في البحار وعلى اليابسة، فهل اقتربت لحظة نهاية هذه الأحادية؟ 

العالم يدخل مرحلة التحوّل؟
يرقد العالم اليوم على صفيح ساخن، وهو يشهد مزيجاً معقّداً من التوترات المتصاعدة لجملة من الأسباب، أكثرها أهمية تراجع الولايات المتحدة الأميركية في أكثر من ساحة، وآخرها الانسحاب من أفغانستان بعد عقدين على احتلالها هذا البلد الفقير، وهزيمتها في بلاد ما بين النهرين، بعد احتلالها وتدمير الدولة فيها. 

يُضاف إلى ذلك الانقسام الحاد في الداخل الأميركي الذي تجلّى في غزوة الكابيتول، وفي رفض الرئيس السابق دونالد ترامب الاعتراف بنتيجة الانتخابات، واتهامه الديمقراطيين بالتزوير. والأهم أنّ صنّاع القرار في واشنطن يلمسون هذا التراجع، وأنّ قبضة أميركا بدأت ترتخي، وهيمنتها على العالم وسطوتها عليه بدأت تتحلل. 

يرافق هذا الانكفاء الأميركي تقدّم واضح للصين اقتصادياً وتكنولوجياً، وعسكرياً أيضاً، وإصرار على المتابعة وعدم التراجع أمام التهويل الأميركي، سواء من خلال مشروع "الحزام والطريق" أو من خلال بناء تحالفات غير خفية مع روسيا، وأخرى اقتصادية مع إيران وعدد من الدول الأوروبية والآسيوية والأفريقية، والأكثر أهمية هو شعور القيادتين الصينية والروسية بعد القمة الأخيرة في بكين بأنّ هناك إمكانية للانتقال من الدفاع إلى الهجوم، بعد تمادي الأميركيين في استعدائهما وفرض العقوبات عليهما ومحاولة احتوائهما.

انطلاقاً من هذه الخلفية، تتفاعل الأزمة الأوكرانية، وتتصدر المشهد السياسي الدولي، لتصبح القضية الأولى التي تشغل العالم وإعلامه وسياسييه ومنابره ومؤتمراته. لذلك، لا يمكن الفصل بين تسخين هذا الملف اليوم وما يحصل على المستوى الدولي من انزياحات تطال الصفائح التكتونية للنظام الدولي المستمر منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولا يمكن التغاضي عن التداخل والمشتركات بين كل من مسألتي أوكرانيا وتايوان.

روسيا من منظور جيوسياسي
تُعتبر روسيا تاريخياً، وبحكم موقعها الجغرافي، مُهدَّدة بالغزو دوماً. وقد تعرَّضت لذلك في أكثر من محطة تاريخية، فقد غزاها المغول في القرن الثالث عشر، بسبب عدم امتلاكها موانع طبيعية، وهي تمتاز بالسهول الكبيرة التي تغري الغزاة، وتشكّل هدفاً مثالياً لهم، بعكس الولايات المتحدة غير المحاطة بالأعداء، والتي تجاورها دولتان هما المكسيك وكندا، إضافةً إلى "طرف" ثالث هو الأسماك التي تعيش في المحيطين الأطلسي والهادي. لذلك، قد يكون الخوف الروسي الدائم على الأمن القومي مبرراً.

وكان الاتحاد السوفياتي يعتبر عامل حماية لروسيا بسبب التوسع الذي قام به السوفيات، وشكّل درعاً لها من الأعداء. لذلك، صرّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: "إنّ انهيار الاتحاد السوفياتي كان أكبر كارثة في القرن العشرين". 

أوكرانيا: الخنجر القاتل في يد الغرب
في 23 كانون الأول/ديسمبر 2021، وخلال المؤتمر الصحافي السنوي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أثار سؤال مراسلة "سكاي نيوز" ديانا ماجناي جدلاً كبيراً، إذ أجاب بوتين باقتضاب عليه، قائلاً إنَّ ملاحظات روسيا حول سلوك الولايات المتحدة تعود إلى العام 1990، وإن واشنطن لم تتجاهلها فحسب، بل استمرّت بالمضي قدماً أيضاً.

الآن، أسلحة الناتو على وشك الانتشار في أوكرانيا، الأمر الذي سيكون حقيقة غير مقبولة بالنسبة إلى موسكو، ويجب أن يكون مفهوماً أنّ تثبيت الصواريخ على مسافة 4 دقائق بالطائرة من موسكو يشكل تهديداً شديداً وسبباً كافياً للحرب.

تعود مشكلة أوكرانيا مع روسيا إلى عشية انهيار الاتحاد السوفياتي، لما تشكّله مساحتها الكبيرة وحدودها الطويلة مع روسيا والتداخل الاجتماعي والثقافي من أهمية استراتيجية للأمن القومي الروسي. عندما نالت أوكرانيا استقلالها في العام 1990، أطلق جيمس بيكر، وزير الخارجية الأميركي حينها، جملة شهيرة أثناء لقائه الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف حول مستقبل الأمن الأوروبي قائلاً: "لا بوصة واحدة شرقاً"، في تأكيد صريح لعدم نية واشنطن توسيع حلف الناتو نحو الشرق.

لكنّ الولايات المتحدة أخلّت بوعدها، وبالغت في إجراءاتها التوسعية، وضمَّت عدداً من دول أوروبا الشرقية ودول البلطيق الثلاث إلى الناتو، مستغلةً ضعف روسيا ومشاكلها الاقتصادية وعدم استقرارها السياسي، وناقضت التعهدات التي حصل عليها الاتحاد السوفياتي من واشنطن وبقية العواصم الغربية في مباحثات توحيد ألمانيا في العام 1990، وهي اليوم تحاول تطويق روسيا ووضع صواريخ الناتو وترسانته واستخباراته تحت أنف الدولة الروسية. 

ولمزيد من التوضيح، ففي زمن الاتحاد السوفياتي، كانت أقرب نقطة تمركز لحلف شمال الأطلسي تبعد عن مدينة بطرسبرغ في روسيا الموجودة على شاطئ بحر البلطيق حوالى 1500 كلم. أما اليوم، فقد أصبح وجود الناتو في دول البلطيق الثلاث، ومنها إستونيا، أقل من 140 كيلومتراً فقط. من هنا، نستحضر قول مستشار الأمن القومي الأكثر شهرة زيبيغنيو بريجنسكي في أوائل العام 1994: "إذا سيطرت روسيا على أوكرانيا، فيمكنها أن تعيد بناء إمبراطوريتها من جديد".

إدارة جو بايدن والهروب إلى الأمام
يعرف المتابعون أنّ وضع الرئيس جو بايدن السياسي لا يُحسدُ عليه بعد سنة ونيّف من وصوله إلى البيت الأبيض، وأنّ إدارته أخفقت في تحقيق إنجاز واضح في أيّ من الملفات الحساسة التي وعد بها الأميركيين في حملته الانتخابية، وما زاد طينته بلّة هو الانسحاب المتهور والمذلّ لجيش الإمبراطورية من أفغانستان بالشّكل الذي حصل فيه صيف العام 2021، إضافةً إلى استعصاء تطويع إيران في رحلة العودة إلى اتفاقية العمل الشاملة المشتركة في فيينا، وعدم استسلام "أنصار الله" في اليمن، وبالتالي، لا تَوقّف للحرب التي وعد بايدن بإيقافها فور وصوله إلى البيت الأبيض. زد على ذلك الخوف الأكبر، والكابوس الذي يقضّ مضجع الولايات المتحدة بحزبيها ونخبها ومجمعها الصناعي العسكري، وهو الصعود السريع للتنّين الصيني. لذا، ليس من المستغرب أن يسعى بايدن وإدارته لتسميم الأجواء مع روسيا، لتحقيق جملة من الأهداف، منها:

1-   إلهاء روسيا ومحاولة توريطها في حرب مع أوكرانيا، وبالتالي مع الأوروبيين، في حرب عبثية لا تنتهي.

2-   تعطيل مشروع خطّ السيل الشمالي الثاني الذي سيوفّر على الأوروبيين ما نسبته 25% من فاتورة الغاز، لأنّ نجاح هذا المشروع سيؤدي إلى نزع مخالب واشنطن وابتزازها الدائم لروسيا وأوروبا بخطوط النقل عبر أوكرانيا.

3-   العمل على تأخير ولادة النظام الدولي الجديد الذي تستعجله موسكو لاستعادة دورها المفقود منذ 3 عقود.

هل كل ما تقرّره واشنطن منزل ومقدس؟ وماذا عن المعطيات؟

تشير المعطيات والتصريحات الأميركية إلى أنّ تغيير النظام الأوكراني الموالي للغرب، إذا حصل، لن يؤدي إلى تدخل عسكري أميركي أو تدخل لحلف الناتو، والرهان على الدخول في مواجهة قد تتحوّل إلى حرب نووية مدمرة سيخيب، بل أقصى ما ستفعله واشنطن وما صرّحت عنه هو فرض عقوبات على روسيا، ما سيؤثّر في سوق الغاز والطاقة في العالم، نظراً إلى تعقيدات هذا الملف وصعوبة استبدال الغاز الروسي إلى مثيله القطري أو أي غاز آخر، ونقل جزء من حصة كلّ من كوريا واليابان ومنحها لأوروبا، تعويضاً عن انقطاع الغاز الروسي.

والموضوع الأكثر أهمية هو أنَّ الصين قد تستغلّ الانشغال الأميركي الأطلسي بما يجري في أوكرانيا لاجتياح تايوان واستعادتها، ونزع هذه الشوكة من حلق التنين الصيني، ما سيُضعف هيمنة واشنطن والناتو على العالم، ويسرّع ولادة النظام الدولي الذي كانت الصين تتمهّل في الوصول إليه.

وفي هذا السياق، يقول جوزيف ناثان في مقال له في "آسيا تايمز" إنّ مشاركة الولايات المتحدة في الصراع في أوكرانيا ليس لها أيّ معنى استراتيجي. وإذا أرادت واشنطن استعادة مكانتها العالمية من أجل إعادة البناء بشكل أفضل، فإنها تحتاج إلى العودة إلى جذورها التي جعلتها متفوقة، وهو ما يكمن في قدرتها على متابعة الابتكارات التكنولوجية بدلاً من شنّ الحروب، واتباع سياسة الخداع، وهذا ما يذهب إليه ستيفن والت، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفرد، إذ يقول إنّ هذه الأزمة كان من الممكن تجنّبها بأكملها لو لم تستسلم الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون للغطرسة والهيمنة.

الموقف الأوروبي والاستلاب السياسي 
 يقول الرّئيس شارل ديغول: "النّاتو ليس إلّا واجهة للهيمنة الأميركية على أوروبا، لأنّ القائد الأعلى للحلف هو دائماً ضابطٌ أميركي (حتى ذلك الحين، لم يكن هناك إلا الأميركي في سدة الأمانة العامة للحلف)، وأنّ القرارات السّياسية تتَّخذ بشكلٍ مشترك بين واشنطن ولندن، وليس الحلفاء الباقون سوى أتباع.

لا يخفى على متابع أنّ الدول الأوروبية متهمة بالانصياع إلى واشنطن، وأنها تعاني من الاستلاب السياسي، ولنا من الشواهد ما لا تتسع له هذه المقالة، ولكن سنحيل القارئ إلى شاهدين فقط: 

الأول، هو الحرب على العراق ومعارضة فرنسا لها لأسباب تتصل بمصالحها، ولكن جورج دبليو بوش أمسك بيد توني بلير، وأدارا ظهرهما للعالم، وقادا حرباً دمرت الدولة العراقية بحجة كاذبة وملفّقة.

الثاني، هو انسحاب إدارة الرئيس دونالد ترامب من اتفاقية العمل الشاملة المشتركة أو الاتفاق النووي مع إيران، ووقوف الأوروبيين كشاهد زور لا حول لهم ولا رأي.

ولا ننسى قضية الغواصات النووية الفرنسية كدليل على ضعف فرنسا، وقيام واشنطن بطعنها في صميم كبريائها، وإنشاء تحالف "أوكوس" مع بريطانيا وأستراليا، ضاربة "زعل" حليفتها باريس في الناتو أو رضاها بعرض الحائط.

اليوم، يعاني الأوروبيون التشتت على مستوى القرار السياسي، ويعانون أيضاً انكشاف ضعف شخصيتهم السياسية أمام رجال اليانكي، فهم متخوفون من العملية العسكرية في أوكرانيا، ومن تداعياتها الكارثية على الأمن والاقتصاد الأوروبيين، ولكنهم لا يجرأون على الاعتراض، فنرى التمايز في الموقف الفرنسي، والنّقاشات الدّاخليّة الكبيرة، والاختلافات داخل حكومة ألمانيا الائتلافية. 

لذا، إنّ واشنطن ولندن قلقتان من عدم انصياع الحكومة الألمانية الجديدة بقيادة المستشار أولاف شولتس، الذي منعت حكومته الطّائرات البريطانية المُحمّلة بالأسلحة الموجّهة من التحليق فوق أراضيها في طريقها إلى أوكرانيا.

وثمة نقاش بين النخب الأوروبية، وأسئلة إشكالية تُطرح عن كيفية سماح قادة فرنسا وألمانيا للبريطانيين بالتدخل في شؤون الاتحاد الأوروبي، والتحريض والدفع نحو إشعال حرب مع روسيا، بعد خروج لندن من الاتحاد، وسعيها مع واشنطن إلى تجويفه، ومن ثم إسقاطه، ومصلحة أوروبا في خوض حرب جديدة بعد حربين عالميتين دمرتا أوروبا، وحرب في يوغسلافيا ذهب ضحيتها عشرات الآلاف في أعقاب الحرب الباردة. وفي الحروب الثلاثة، لعبت واشنطن على أراضي غيرها، وبقيت بمنأى عن أهوال الحرب ونتائجها المدمرة.

العالم يغلي ويموج. قوى تتراجع وأخرى تتقدم. الرئيس بوتين يعرف قصة مواطنه شيخوف جيداً، وهو لا يريد أن يستغفله رجال واشنطن، ويحاصروا شعبه، ويطوقوا حدود دولته، من دون أن يحتج أو يصرخ، فالرئيس السابق لـ"كي جي بي" بالطبع ليس يوليا.

تقرير تابعته الاشراق للكاتب طارق عبود.

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP