16/05/2018
تقاریر 691 قراءة
حوارات بروكسيل الإيرانية: رهان أوروبي لعودة «شرق أوسطية»
وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف
أجواء إيجابية كانت تنبعث من بروكسيل أمس، حيث اختتم محمد جواد ظريف جولته الدبلوماسية التي شملت بكين وموسكو، والتقى نظراءه الأوروبيين المعنيين بالاتفاق النووي. لا تفاؤل قاطعاً، لكن المحادثات بمثابة «بداية جيدة» بلسان المسؤول الإيراني، بينما تندرج ضمن مساعٍ لإيجاد «حلول عمليّة لإنقاذ الاتفاق الإيراني خلال الأسابيع القليلة المقبلة»، بلسان موغيريني. هذا ما أعلنه كل منهما منتصف الليل عقب الاجتماع المسائي. عليه، لا تشاؤم قاطعاً أيضاً، لكن ثمة حواراً انطلق في بروكسيل، يُريد منه الأوروبيون تقديم ما أمكن لإيران، والعودة من بوابة «الضمانات» إلى الشرق الأوسط الذي يخرجهم منه تحالف «أميركا ـ إسرائيل ـ السعودية».
في بداية الشهر الجاري، أعرب الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير عن قلق في شأن «التغيير الكبير» في العلاقات بين ضفتي المحيط الأطلسي، وسط توترات بين الاتحاد الأوروبي والرئيس الأميركي دونالد ترامب، في شأن التجارة والدفاع واتفاق إيران النووي. هذا الرجل الذي كان وزير خارجية بلاده وشارك في صياغة «النووي الإيراني» إلى جانب وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري، ضمن فريق كان أكثره إصغاءً لبنيامين نتانياهو، وزير خارجية باريس في عهد فرنسوا هولاند، لوران فابيوس، أعلن أنّ بلاده يجب أن «تكبر... ونتحمل مسؤولياتنا الدولية»، وبرر قلقه بالقول: «ليس لأنني أنظر إلى رئيس يطلق رسائل تويتر مزعجة، ولكن لأن تغييراً كبيراً يحدث الآن، وهناك إدارة أميركية جديدة لا تعتبرنا جزءاً من مجتمع دولي نعمل فيه معاً، ولكنها ترى العالم كساحة يجب على كل فرد فيها أن يجد طريقه وحده».
في سياق هذه التصريحات، ذكّر شتاينماير بما سبق لكيري أن قاله إبّان توقيع «الاتفاق النووي» في صيف 2015 (قد يكون منع حدوث حرب)، مضيفاً: «لقد كانت هذه جملة مهمة، علينا أن نتذكر ما يمكن أن يحدث لو انهار الاتفاق مرة أخرى، وعاد التسلح من جديد إلى الشرق الأوسط».
الدبلوماسي الألماني الذي حذّر أيضاً من عزل «الغرب» المتزايد للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وضع في كلامه أعلاه، «الإصبع على الجرح» كما يُقال: منظومة الغرب السياسية تتهددها عوامل عدة، وقد تعززت هذه الديناميكية السلبية بقرار ترامب الأحادي بالانسحاب من «الاتفاق النووي»، من دون أخذ مصالح حلفائه الأوروبيين، كما بدا، في الاعتبار. تأكيداً ربما على ذلك، قال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، أمس، إنّ واشنطن «تصرفت من جانب واحد» في شأن قرار نقل سفارتها إلى القدس والاتفاق النووي مع إيران، مشيراً إلى أنّ باريس لديها خلاف مع واشنطن حول هذين الموضوعين.
الحديث عن أفق «المنظومة الغربية» المعهودة في شكلها الحالي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تقريباً، لم يعد مجرد تكهنات صحافية، أو إعلانات. هي أيضاً مثار حلقات نقاشية يجتمع حولها أكاديميون متخصصون في العلاقات الدولية، في غير مدينة غربية: آخر الأمثلة، كان النقاش حول «القيادة الغربية» للعالم، الذي استضافه «منتدى سان لوران» المنعقد في مونتريال الكندية في الثالث والرابع من الشهر الجاري، بمشاركة أسماء بارزة، لعلّ أهمها الأكاديمي الفرنسي برتران بادي، الذي أعاد تراجع النفوذ الغربي إلى سبب رئيس: «الأميركيون والأوروبيون، يعاندون لاستعمال القوّة كأداة هيمنة، في وقت لم تعد لديهم وسائل (تُحقِّق) طموحاتهم».
الأكيد أنّ ترامب ليس مسؤولاً وحده عن الخلل في العلاقات الغربية ـــ الغربية، إذ تعود جذوره إلى عهود أميركية سابقة، لكنّه أثار الأزمة بشكل صارخ، فضلاً عن أنّ قراراته تأتي في ظلّ زمن تعرف سياسته الدولية تبدّلات جمّة، الأمر الذي يزيد من مستوى التأثير. علاوة على ذلك، فإنّ «قراره الإيراني» سوف تكون له تداعيات مباشرة على حلفائه الأوروبيين في الشرق الأوسط، وهذا ما دفع إلى لهجة أوروبية، بخاصة فرنسية، واضحة لجهة التشديد على ضرورة الالتزام بهذا الاتفاق.
على هذه الخلفية، حضر أمس، وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، إلى بروكسيل، حيث التقى بنظرائه الأوروبيين، وخرج بإعلان، يقول: «بدأنا مساراً يجب أن يكون مكثفاً، ولا يوجد لدينا الكثير من الوقت، إذ يجب علينا الوصول إلى نوع من الضمانات، تضمن فوائد (مكاسب) إيران، وذلك خلال فترة زمنية محددة حصرها الرئيس (حسن روحاني) في بضعة أسابيع».
يمكن للأوروبيين الدفاع عن مصالحهم، لكن لا قدرة لهم على تقديم ضمانات جديّة
نهار ظريف الأوروبي (الذي كان يُحضِّر لاجتماع مسائي شارك فيه إلى جانب وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني، ونظرائه الفرنسي والألماني والبريطاني)، لخّصه بالقول إنّ جهود إنقاذ الاتفاق النووي بعد انسحاب الولايات المتحدة هي «على المسار الصحيح». وبعد لقاء وصفه بـ«الجيّد والبنّاء» مع موغيريني، أكدت الأخيرة أنّ الاجتماع كان «مثمراً للغاية». أشارت إلى أن الطريق طويل، وقالت: «نعمل على الإجراءات التي بإمكاننا البدء في تطبيقها وسننظر في مضمون ذلك». وأضافت أنّ «الأمر الوحيد المؤكد في شكل تام هو أن الاتحاد الأوروبي عازم على المحافظة على هذا الاتفاق الذي يُعدُّ ضرورياً لأمننا والأمن في المنطقة».
الحدث الأوروبي ــ الإيراني في بروكسيل، كانت ترافقه تصريحات فرنسية على درجة من الأهمية، وقد جاءت على لسان وزير الاقتصاد برونو لومير، الذي قال بينما كان واقفاً إلى جانب وزير الخارجية جان إيف لودريان: «نحن مع لودريان مصممون بالكامل على مراعاة مصالحنا الاقتصاديّة، وثمة مبدأ واضح: رفض العقوبات ما فوق الإقليمية (يقصد العقوبات الأميركية ضدّ إيران التي ستطاول الأطراف الأوروبية). اجتمعنا هذا الصباح مع الشركات الفرنسية المعنيّة بقرار أميركا لناحية الانسحاب من الاتفاق النووي».
اللهجة الفرنسية الواضحة بوجهتها المخالفة لواشنطن (وقد ظهرت أيضاً ولو نسبياً في جلسة مجلس الأمن الخاصة بغزة)، قابلها سعي الدبلوماسيين الأوروبيين في بروكسيل إلى «خفض سقف التوقعات من اجتماع» ظريف ونظرائه، كما نقلت «فرانس برس» عنهم، مشددين على «التحدي الهائل الذي يمثله إيجاد وسيلة لتلافي العقوبات الأميركية التي تستهدف الشركات التجارية الأجنبية المتعاملة مع إيران».
ووفق مصدر مقرّب من الحكومة الفرنسية تحدث أمس إلى «فرانس برس»، فإنّ الولايات المتحدة ستعيد فرض عقوبات على الشركات التي تقيم صلات مع إيران بصورة تدريجية، بدءاً بقطاعي السيارات والطيران المدني، ومن ثم الطاقة والبنوك. وقال المصدر إنّ أولى العقوبات التي سيُعاد تطبيقها في 6 آب ستشمل السيارات والطيران المدني. ومن ثم في 4 تشرين الثاني، سيتم استهداف قطاع الطاقة، ويشمل النفط والغاز والبتروكيميائيات، وهذا ما سيجبر المستوردين على «خفض وارداتهم من الخام الإيراني وستُفرض بصورة أعم عقوبات على العمليات والمبادلات التجارية المتصلة بهذا القطاع مع إيران». ووفق المصدر نفسه، سيُعاد فرض العقوبات المتصلة بالقطاع المالي و«سيُحظر في الوقت نفسه التعامل مع عدد من كبار البنوك والهيئات المالية بما في ذلك البنك المركزي، وخدمة الرسائل المالية» أو نظام «سويفت» العالمي للتحويلات، وستُلغى في الوقت نفسه التراخيص الخاصة التي تجيز لفروع البنوك الأميركية التعامل مع إيران.
في مقابل المسعى الفرنسي ـــ الأوروبي الراهن الذي يأتي تحت عناوين مختلفة، يُنسى أنّه في المرحلة السابقة كانت إيران «تستغرب إزاء أنّ فرنسا، وعوضاً عن أن تستخدم تأثيرها لحثّ حليفها الأميركي على احترام الاتفاق وعلى الرفع الفعلي للعقوبات الاقتصاديّة، أخذت المبادرة، بالاشتراك مع المملكة المتحدة وألمانيا، لتطلب من الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات جديدة ضدّ إيران، آملة في إرضاء دونالد ترامب»، كما قال في مقالة أخيرة الأكاديمي الفرنسي برنادر هوركارد. ذكّر الرجل أيضاً بالزيارة التي كان مزمعاً أن يجريها الرئيس إيمانويل ماكرون إلى طهران، مشيراً إلى «نشاط جميع اللوبيات السعوديّة والإسرائيليّة والأميركيّة، خصوصاً في فرنسا، من أجل ألا تتمّ هذه الزيارة أو أن تفشل، وتأثير هؤلاء حقيقي في الإدارة الفرنسيّة حيث أنّ الأطلسيين المنحازين لإسرائيل والسعوديّة (حتّى لا نقول المحافظين الجدد) عديدون وأذكياء وناجعون، لا سيما بين الدبلوماسيين». وذكّر أيضاً بفشل زيارة وزير خارجية فرنسا الأخيرة إلى طهران، لافتاً في الوقت نفسه: «نُفاجَأ (أيضاً) بالمكانة المعطاة في الإدارة لأشخاص كانوا قد عارضوا هذا الاتفاق في عام 2015، وهم مكلّفون رسميّاً بالدفاع عنه أو بالأحرى بإعادة التفاوض في شأنه من خلال فرض شروط جديدة على إيران». هذه المقاربة تجعل واجباً إعادة التفاوض على أسس جديدة بين الأوروبيين وإيران، إذ في فرنسا مثلاً، ثمة أصوات، من أمثال الإعلامي النافذ (المتصهين) إيريك زيمور، ترى أنّه عقب قرار ترامب، بات الشرق الأوسط أشبه بأوروبا قبيل «حرب 1914 ـــ 1918»، وذلك لناحية أنّ التحالفات القائمة باتت تتدحرج نحو حرب.
في غضون ذلك، على رغم أنّ الأوروبيين قد يمكنهم الدفاع عن مصالحهم، بما يخدم العلاقات التجارية مع إيران، من دون أن تكون لهم القدرة على تقديم ضمانات جديّة، فلعلّ ما هو إيجابي في مجمل المشهد، أنّ أصواتاً غربية ذات نفوذ نسبي، تتعالى ضدّ قرار ترامب. على سبيل المثال، كتب مدير «مجموعة الأزمات الدولية» روبرت ماليه، في مقالة أخيرة: «الاتفاق النووي كان له هدف واضح: منع إيران من امتلاك السلاح الذري. لم يكن فريق المفاوضين الذي كنتُ أمثلُه لدى البيت الأبيض بحاجة لما يُسمّى باكتشافات بنيامين نتانياهو... كلّ كلمة من الاتفاق كان مغرقة في نقص الثقة بصورة متبادلة، وهو ما يُفسِّر آليات التحقق غير المسبوقة: إنّه نظام التفتيش الأكثر حزماً الذي تقبل به دولة ذات سيادة، كما الأحكام المهمة المتعلقة بتجميد، أو حتى بتراجع، البرنامج النووي الإيراني»، داعياً الأوروبيين إلى «الإنقاذ» وإبقاء الحوار مع طهران قائماً بالنظر إلى الواقع الإقليمي.