26/12/2025
دولي 12 قراءة
الانحياز البنيوي .. لماذا تعجز واشنطن عن حل أزمات الشرق الأوسط؟

الاشراق
الاشراق | متابعة.
لا تزال تصريحات المبعوث الأميركي إلى سوريا ولبنان وسفير واشنطن لدى تركيا، توم باراك، تثير الكثير من ردود الفعل، نظرًا إلى ما تنطوي عليه من نقاط وقضايا مثيرة للجدل، وكاشفة عن خلفيات المقاربات الأميركية تجاه شؤون وقضايا المنطقة، إذ تعكس هذه التصريحات مستوى واضحًا من انعدام الرؤية والفهم الحقيقي لطبيعة الأوضاع والأزمات القائمة.
وتُعد تصريحات باراك مثالًا واضحًا على حالة الإرباك الاستراتيجي الأميركي، سواء على مستوى الرؤية أو في طريقة التعاطي مع قضايا المنطقة، وذلك نتيجة الانحياز الأميركي البنيوي والارتباط الوثيق بالكيان الإسرائيلي والمشروع الصهيوني، وهو انحياز مستمر ودائم يعكس تعثر واشنطن المزمن في الوصول إلى حلول تتماشى مع سياساتها في المنطقة منذ أكثر من 6 عقود، ولا سيما بعد أفول دور القوى الاستعمارية التقليدية الفرنسية والبريطانية في غرب آسيا.
المشكلة ليست سياسية فحسب، بل تكمن أيضًا في محاولة فرض نماذج غربية على مجتمعات قبلية. لهذا، يدعو ترامب إلى وقف هذا الفرض وإغراق المنطقة بالازدهار باعتباره الطريق الوحيد للحل، وتُعدّ اتفاقات أبراهام نموذجًا لهذا المسار».
إذاً، يُقرّ باراك بتعقيدات المنطقة التاريخية وصعوبة إيجاد حلول لها، ويشير إلى قرار أميركي بالتخفيف من التدخل فيها، إلا أن الوقائع والمستجدات تنقض هذا الطرح بوضوح. والمثال الأبرز على ذلك ترؤس ترامب شخصيًا لما يُسمّى «مجلس السلام» في غزة، إضافة إلى انخراط القيادة المركزية الأميركية في مسرح العمليات الممتد من غزة إلى لبنان وصولًا إلى سوريا.
كما يغفل باراك عن أن ما يقوم به رئيسه ترامب ليس سوى نموذج فرض جديد، وإن جاء هذه المرة تحت غطاء اقتصادي وتنموي مزعوم، فمقاربة صاحب أفكار «الريفييرا» والمناطق الاقتصادية لا تبدو سوى تبسيط سطحي لقضية يدّعي باراك نفسه أن آلاف السنين عجزت عن معالجتها.
وهذا ما يؤكده راي تقيّه في مقاله في فورين أفيرز، إذ يقول "إن الرئيس ترامب لم يُخرج واشنطن من الشرق الأوسط، بل تعامل مع المنطقة بمثالية أقل؛ فمواقفه كانت مدفوعة بالكامل بالبراغماتية وتفضيل سياسة القوة. وعلى غرار رجال الشرق الأوسط الأقوياء، قسّم ترامب العالم إلى فائزين وخاسرين، ووقف بثبات إلى جانب الفائزين. وبما أن إسرائيل قوية، فإنه يتركها تفعل ما تشاء".
هكذا يصبح المشهد بالغ الوضوح: تفعل "إسرائيل" ما تشاء، ثم يأتي ترامب ليستثمر في «العمل القذر» الإسرائيلي، فيطرح ما يُسمّى بفرض الازدهار؛ أو، بعبارة أدق، إجبار دول المنطقة على اللجوء إلى الولايات المتحدة الأميركية، لتغدو رهينة سياساتها ومصالحها، مقابل نوع من «الازدهار المدروس والمحسوب» الذي يقوم بدور الجزرة، فيما تبقى العصا الإسرائيلية الأداة الحاضرة دائمًا على مستوى الإقليم.
إن التعاطي وفق هذه الثنائية يكشف بوضوح أن لا جديد يُذكر في السياسة الأميركية، وأن الفشل الاستراتيجي لواشنطن في المنطقة لا يزال مستمرًا. كما أن مقاربة ترامب، المستندة إلى خلفيته كرجل أعمال ومقاولات، لا تعدو كونها محاولة جديدة تُضاف إلى سلسلة هذا الفشل الاستراتيجي.
في هذا الإطار، يقول راي تقيّه في مقالته: «لقد هدّأ ترامب الوضع في الشرق الأوسط، لكنه لم يحلّ المشكلة. لم يتحقق السلام في الأرض المقدسة، ولم يُمحَ البرنامج النووي الإيراني، ولا يزال العالم العربي يعاني اختلالات سياسية. وفي منطقة كثيرًا ما تسوء فيها الأوضاع، لا يزال هناك الكثير مما يمكن أن ينهار».
بالفعل، فإن جلّ ما فعله ترامب هو تكريس مزيد من عوامل الانهيار؛ فجميع الساحات تعيش حالة هشّة، ووقف القتال أو إطلاق النار يظل غير ثابت وغير مستقر. وحتى في المسرح السوري، حيث يُبدي رئيس النظام الجديد تعاونًا شبه مطلق مع واشنطن، نشهد تصاعدًا متزايدًا في التوتر، وتتحول الاحتكاكات الناتجة من التوغلات الإسرائيلية في الأراضي السورية إلى أحداث دامية، وهو ما طال مؤخرًا حتى الجانب الأميركي في تدمر.
هذه الحقيقة أقرّ بها باراك نفسه في مقابلاته الصحفية والإعلامية، حين قال إنه «لا يمكن لإسرائيل الاستمرار في مواجهة ملياري مسلم، في ظل هذا العداء للسامية الذي ينتشر في أنحاء العالم».
يؤكد هذا الكلام أن المشكلة العميقة التي جعلت الولايات المتحدة الأميركية، بمختلف مقارباتها، بما فيها مقاربة ترامب الموصوفة بالواقعية، عاجزة عن إنتاج حلول مستدامة في منطقة غرب آسيا، تكمن في الارتباط الخاص والعميق بين واشنطن وإسرائيل، وفي تجاوزها لحقوق شعوب المنطقة، وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني، وانحيازها الكامل لإسرائيل بكل أدائها العدواني في الإقليم.
وإذا كان باراك يكرر الحديث عن انتهاء مفاعيل سايكس–بيكو، ويلمح إلى إعادة رسم خرائط المنطقة، بما في ذلك طرح أفكار من قبيل ضم لبنان إلى سوريا، فإن هذا الطرح يفترض، في الوقت نفسه، الاعتراف بانتهاء مفاعيل وعد بلفور، بوصفه جزءًا من إرث ما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية.
فالحلول، إن كانت جذرية، يجب أن تبدأ من استعادة فلسطين دولة حيّة كاملة السيادة على التراب الفلسطيني التاريخي. وما دام باراك لا يمانع تعديل الحدود الدولية وإعادة رسم الشكل الجيوسياسي للمنطقة، فما الذي يمنع أن تبدأ هذه العملية من مركز الصراع: فلسطين؟
إن إخفاق الإدارات الأميركية المتعاقبة في إدراك أن جوهر الصراع في المنطقة هو القضية الفلسطينية، وأنها القضية المركزية للأمة العربية والإسلامية أو «الملياري مسلم»، وفق تعبير باراك نفسه، يُبقي هذه الإدارات في حالة عجز دائم عن إنتاج حلول حقيقية ومستدامة.
وفي السياق ذاته، يكتب تقيّه: «إن مجموع مساعي واشنطن لتحقيق حل الدولتين لم يكن سوى رزمة من المذكرات التي ترثي السلام الضائع». ويضيف أن «خرافة حل الدولتين لا تزال تحظى بدعم واسع داخل المؤسسة التقليدية للسياسة الخارجية في واشنطن، لكن ليس من ترامب، الذي يتفهم أن إسرائيل لا تريد التنازل عن أراضيها، ولا ينبغي أن يُطلب منها ذلك».
كما يشير تقيّه إلى أن «إسرائيل تبدو مدركة لطبيعة الوضع الطبيعي الجديد، وتعلم أنه لا يوجد نصر دائم في الشرق الأوسط، وهو ما يفسر تبنيها مبدأ ‟جزّ العشب” في التعامل مع أعدائها، غير أنه من غير الواضح ما إذا كان ترامب يدرك هذه الحقائق بالقدر نفسه».
وعليه، يمكن توصيف المرحلة الراهنة بوصفها مرحلة بلا حسم: فلا إسرائيل قادرة على ما هو أكثر من تأجيل نمو التهديدات المحيطة بها، ولا واشنطن قادرة على بلورة حلول مستدامة على مستوى المنطقة. ويعود هذا العجز، في جوهره، إلى طبيعة الصراع نفسه، القائم على سلب الحقوق ومخالفة السنن التاريخية التي تؤكد استحالة دوام سياسات الاحتلال والاستقواء.
ولعلّ إقرار باراك الأخير بشأن الوضع اللبناني، حين قال إن «التصعيد العسكري في لبنان لن يفيد»، وإن الفكرة القائلة بضرورة «نزع سلاح حزب الله وحماس لا يمكن تحقيقها عسكريًا»، يعكس تحوّلًا ملحوظًا نحو قدر من الواقعية في مقاربته.
غير أن هذه الواقعية المستجدة، على الرغم من استنادها إلى معطيات الميدان، لا يمكن أن تشكّل مخرجًا حقيقيًا من «طبخات البحص الأميركية» ما لم تتحول إلى واقعية شاملة. واقعية تعي، كما ورد في كلام باراك نفسه، استحالة مواجهة «ملياري مسلم»، وتدرك أن التفوق الظاهري لإسرائيل في المرحلة الراهنة ليس سوى حالة مؤقتة، شأنه شأن كيانها القائم على معادلة مخالفة للسنن الطبيعية والتاريخية، فإمكان تبدّل أو تعديل موازين القوى يظل حاضرًا في كل محطة، وهو في جوهره مسألة وقت. عندها، لن تكون التداعيات سلبية على إسرائيل وحدها، بل على المصالح الأميركية في المنطقة أيضًا.
وفي ظل التحولات الدولية المتسارعة، واتجاه النظام العالمي نحو تعددية الأقطاب، وصعود التيارات الأميركية الداعية إلى سياسة «أميركا أولًا»، إلى جانب تنامي مشاعر العداء لإسرائيل والولايات المتحدة في أجزاء واسعة من العالم، تبدو واشنطن في موقع المجازفة العالية بمصالحها الإقليمية كلما استمرت في انحيازها المطلق إلى إسرائيل، وكلما تجنبت مواجهة حقائق الواقع ومتطلبات الحل الدائم، القائم على استعادة شعوب المنطقة لحقوقها في الأرض، وتمكينها من استثمار مواردها وطاقاتها بصورة مستقلة، وبما يراعي مصالح أبنائها في الدرجة الأولى.
وإلى أن يتحقق ذلك، يمكن استعارة ما قاله باراك نفسه في حديثه عن «الفصول»، إذ إن الواقع الراهن ليس سوى فصل قد يكون بالغ القسوة والصعوبة على أصحاب الحق وأبناء المنطقة، لكنه يظل قابلًا لأن يفتح الأفق أمام فصول قادمة أكثر إيجابية.
بثينة عليق - إعلامية لبنانية
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً