بلاغة التقنية.. أثر التكنولوجيا والـ AI في التعبيرات الشائعة لدى جيل "زِدْ"

ishraq

الاشراق

الاشراق | متابعة.

 ترى، كم تقدر المسافة بين "السنارة غمزت"، وبين "تم الشقط"؟ إذا كان الحساب الدقيق للمدة الزمنية صعباً، فيمكن القول ببساطة إنها بعيدة.. بعيدة جداً، فكلاهما يعبّر عن نجاح الذكر في السيطرة على قلب أنثى، ولكن بتعبيرين مجازيين مختلفين.

الجملتان السابقتان تؤكدان أن الكلمات قد تبلى ولا تبلى المعاني، فكل جيل قادر على ابتكار مجازه الخاص من لغته الجديدة، بما يجعل التعبيرات الشائعة متصلة (Connected) بالحياة اليومية أو بتعبير قديم (يلبس التعبيرات ثياب عصره)، خصوصاً أن للبلاغة أثراً عميقاً في نفوسنا - حتى في حديثنا اليومي - بما يعبّر عن نمط الحياة الجديدة المتصلة بالتقنيات الحديثة. فتعبير "تم الشقط" بالعامية المصرية، هو محاكاة لرسالة الحاسوب "تم حفظ/حذف الملف"، أو "تم إرسال البريد".

بين جيل الدمية وجيل الـــ (PUBG)
لقد ترسخ وجود الأجهزة الإلكترونية (Laptop - Smartphone -Tablet) في تفاصيل حياتنا اليومية، بما انعكس - ليس فقط على نمط الحياة - بل على لغتنا وكلامنا اليومي بكل ما يحمل من تصورات عقلية. فلم تعد الأجهزة الإلكترونية مجرد أدوات مخترعة حديثاً، وإنما هي عناصر أساسية في حياتنا.

هذه النظرة الأولى - القديمة - تكشف عن جيل عاش قبل تمكن التكنولوجيا من حياتنا. أما الرؤية الثانية فهي منظور جيل كامل وجد هذه الأدوات بين يديه منذ ولادته، فلم يعش من دونها، ولم يلعب بغيرها، وقد لا يتصور شكل الحياة قبلها. هذا هو جيل "زد" (Gen Z) المولود خلال الفترة من 1997 -  2012.

جيل سريع كشبكة (5G)
يمكن أن تسمع بين أبناء هذا الجيل تعبيراً مثل: "إحنا مش (Connected) مع بعض"، والذي يأتي كناية عن عدم التوافق بين شخصين، وهو تعبير مجازي خرج من وعي متصل بالأدوات التكنولوجية، فجعل المتكلم نفسه جهاز (Router) متصلاً بهاتف أو حاسوب، ولم يعبّر عن المعنى تقليدياً.

كذلك حين يصف أحدنا شخصاً آخر بتبلّد المشاعر وعدم التفاعل مع ما حوله بأنه: "شخص (AI) ماعندوش مشاعر"، فهنا حوّل المتكلم الموصوف إلى تطبيق مثلاً أو (Robot) يعمل بالذكاء الاصطناعي. أي بلاغة هذه التي خرجت من حياة حاسوبية ووعي رقمي قادر على ابتكار مجاز يليق بنمط حياته!

جيل في عقله (Windows)
لقد تشرّب جيل "زد" التقنيات الحديثة – ولم يسع إلى ذلك وإنما فرضت عليه – إلى أن ترسخت في لغته اليومية، فلم يقف أثر وجود التنقية عند حد استخدام ألفاظها في كلامه اليومي، وإنما استطاع هذا الجيل من دون قصد أن يبتكر تعبيراته بما يناسب نمط حياته، وكانت التقنية حاضرة في وعيه ولا وعيه إلى مستوى عميق جعله يبتكر مجازات وكنايات، وبلاغة عامية تنطلق من خلفية حاسوبية.

هذه اللغة الجديدة التي ابتكرها هذا الجيل لم تظهر متأثرة بالتقنيات الجديدة، إنما خرجت من وعي حاسوبي يستخدم (Laptop) في الدراسة والعمل يومياً، ويدير حياته من خلال (Smartphone)، ويطرح أسئلته وتجيبه تطبيقات الذكاء الاصطناعي.

بلاغة (Gen Z) تطل من سطح المكتب
لا تقف البلاغة عند عصر أو مستوى لغوي معين، وإذا كانت البلاغة كما عرّفها القزويني: "مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته"، فهذا لا يعني أنها حكر على العربية الفصحى، فكل كلام وافق هذا الشرط يعدّ بليغاً، إذ إن الهدف كما يرى الرماني ليس مجرد توصيل المعنى إلى المستمع فقط، بل إيصال المعنى إلى قلبه قبل عقله في أبهى صوره.

فهي: "توصيل المعنى وتمكينه في قلوب المتلقين من طريق إلباسه الصورة الجميلة من اللفظ الذي يفتن الألباب"، وإذا تحقق ذلك، تصبح تعبيرات جيل "زد" بليغة!

احترس لوجهك الزجاجي حتى لا "يجيب شاشة"
لقد ترسخت التقنيات في وعي جيل "زد" إلى حد اعتبار الجسد البشري أقرب إلى قطعة حاسوبية (Hardware)، فظهر ذلك في تعبيرات مجازية مستحدثة بعضها غاية في البلاغة والبيان، وقد ابتكر مجازاً لغوياً غير ما ورثه عن الآباء، واعتبر  الوجه شاشة هاتف حين يقول: "وشّه (وجهه) جاب شاشة"، وهو تعبير يستخدم عند تلف شاشة الهاتف الذكي وتصبح مظلمة أو ثابتة بلا استجابة.

هنا يكمن المجاز، حيث اختار المتحدث التعبير عن الصفع الشديد للوجه بحالة الهاتف الذي تعطلت شاشته. ومن هنا خرج تعبير "وشه مبكسل" من (Pixel) الذي يشير إلى عدم وضوح الصورة، ويستخدم على الحقيقة والمجاز.

فقد يقال لشخص ما يقف أمامك أو يقال عن صورة. والمجاز في أبسط تعريفاته ما قدمه الناقد عبد العزيز عتيق، هو نقل الألفاظ من المعاني الحقيقية المباشرة إلى معان أخرى بينها صلة ومناسبة، ويكون في كلمة مفردة أو تركيب لغوي.

"ضبط المصنع": أن تعود جنيناً ولد للتوّ 
قد يصبح الإنسان هاتفاً. فحين يستخدم أحدنا التعبير: "عمل له إعادة ضبط المصنع" في وصف شخص آخر، فهو يرى الإنسان هاتفاً، وهذا تعبير بليغ خرج من عملية "إعادة ضبط المصنع" وهي مسح بيانات الهاتف فيصبح جديداً فارغاً تماماً، وهي حالة تشبه لحظة الميلاد، حيث يستخدم التعبير عندما يتعرض شخص لإغماء أو سقوط نتيجة صفعة مدوية أو تلقي ضربة على الرأس، فكأنه عاد جنيناً، أو عاد إلى مرحلة "ضبط المصنع".

وهذا تعبير ينطلق من وعي غير بشري بالمرة - على سبيل المجاز وليس الحقيقة - فالمتحدث غير منفصل عن واقعه وإنما يستخدم تقنياته في بلاغته وتعبيراته غير النمطية.

ستمسخ  أنت "فلاشة" جزاء الفتنة
هذه المرة، قد يمسخ الشخص السيئ "فلاشة"، فهو (نمام/فتان/ناقل للكلام)، فقد سمعت غير مرة قول شاب عن زميل: "ده عيل فلاشة"، ولا عجب أن يتحوّل الشاب الموصوف إلى "عيل/طفل" رغم كبر سنه، فالأكثر إدهاشاً أن المتحدث جعل الإنسان مجرد وحدة تخزين (USB flash drive)، وهي بالعامية المصرية "فلاشة"، وذلك كناية عن تخزين ونقل الكلام الذي يحدث مشكلة.

وهذا التعبير صورة جديدة لتعبير قديم: "ده شخص Recorder"، وهو جهاز مسجل الصوت الذي تهالك الآن في منازلنا، فسقط التعبير معه.

قلبك مخترق وعقلك "No signal"
"قلت لك ماتديش باسوورد قلبك لحد". هذه الجملة سمعتها هكذا بلا تغيير. كان أحد الأصدقاء يشكو لصديق مشترك عن فتاة جديدة تركته، فجعل المتكلم القلب المنكسر عبارة عن جهاز (هاتف/حاسوب) أو حساب عبر موقع وله كلمة سرية (Password)، وقد عرفتها الفتاة فاخترقت قلبه وتركته وحيداً، فلم يقل صديقنا البليغ التعبير القديم "لا تسلم أحداً مفتاح قلبك"، وقد عدل عنه إلى تعبير حديث أكثر بلاغة، وهذا (العدول) مصطلح بلاغي يصف هذا الأسلوب اللغوي في ترك كلمة أو تعبير مباشر والانتقال إلى آخر.

ولا عجب أن يرد عليه صديقنا ذو القلب المنكسر بوجه جاد لا يمزح قائلاً: "دخلت حياتي كأنها Hacker وخرجت"، وهذه البلاغة التي تخرج بلا وعي، هي كناية عن السرعة والتمكن والاختراق، فقد جعل قلبه العاشق عبارة عن موقع إلكتروني يسهل على فتاة جميلة اختراقه، ليس كلص متسلل وإنما (هاكر) قرصان إلكتروني. وهذا أمر ليس أعجب من اسم المقهى الذي نجلس فيه واسمه (Code).

بقلم محمد خالد الشرقاوي - كاتب وصحفي من مصر

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP