20/12/2025
ثقافة و فن 14 قراءة
"نيويورك تايمز" عن “صوت هند رجب”.. الفيلم الذي كنت أخشى أن أراه!
.jpg)
الاشراق
الاشراق | متابعة.
نشرت نيويورك تايمز مقالا يتحدث عن فيلم “صوت هند رجب” بوصفه عملًا لا يوثّق موت طفلة بقدر ما يكشف العطب الأخلاقي العميق الذي تخلّفه البيروقراطية و”التنسيق” عندما يصبحان شرطًا لإنقاذ الحياة تحت العنف. ويخلص إلى أن الفيلم لا يدين القتل فقط، بل يفضح كيف يمكن للالتزام بالإجراءات، والخضوع للضرورة، وحتى للصمت الثقافي والسياسي، أن يتحول إلى شكل من أشكال التواطؤ.
يقول الكاتب: “كنت أخشى مشاهدة فيلم “صوت هند رجب”. كنت أعرف مسبقًا ما يكفي ليجعل التجربة ثقيلة: الفيلم مبني على تسجيلات حقيقية لطفلة غزّية في الخامسة من عمرها، عالقة داخل سيارة تحيط بها جثث أفراد عائلتها، تتحدث عبر الهاتف مع عمال إنقاذ. وكنت أعرف أيضًا أن الطفلة هند رجب ستُقتل في النهاية. وفوق ذلك، فإن الفيلم من إخراج كوثر بن هنية، المخرجة التونسية التي اعتادت أن تمحو الخط الفاصل بين الوثائقي والروائي، بحيث يصبح النظر بعيدًا فعلًا شبه مستحيل”.
الفيلم ليس مشوّقًا بالمعنى التقليدي، لأن نهايته معروفة سلفًا. وهو، على نحو مربك، رحيم بالمشاهد: لا يُجبرك على رؤية الطفلة العالقة، ولا على مواجهة ذعرها، ولا على مشاهدة موتها. كل ما نراه هو غرفة عمليات في رام الله- أجهزة حاسوب، جدران زجاجية، وإطلالة مرتفعة لكنها معقّمة على السماء. (صُوّر الفيلم في الواقع داخل موقع تصوير في تونس). مهمة الجالسين هناك ليست الإنقاذ المباشر، بل التنسيق: الحصول على تصريح يسمح لسيارة إسعاف بدخول غزة لالتقاط الطفلة.
الرحلة تستغرق ثماني دقائق فقط. لكن السيارة لا يمكنها الانطلاق قبل اعتماد المهمة والمسار. ولا نعرف، ولا نُخبر، من يملك سلطة الاعتماد هذه. وفي النهاية كما كنت أعرف قبل أن أضغط زر التشغيل، تُقصف سيارة الإسعاف بنيران إسرائيلية، ويموت الجميع.
ما لم أدركه، وأنا أؤجّل مشاهدة الفيلم، هو أن هذه الوفيات ليست موضوعه الحقيقي. موضوع الفيلم هو الأذى الأخلاقي الذي يصيب أولئك المتورطين في الموت، حتى وهم يحاولون منعه. ولو كنت أدركت ذلك، لكنت أكثر خوفًا من مشاهدة الفيلم، لأن هذا النوع من الأذى أقرب بكثير إلى البيت.
التنسيق
أكثر كلمة تتردد في الفيلم وأثقلها، هي كلمة “التنسيق”. تُهمس وتُصرخ، تتحرك على الشفاه برجاء، وتُلفظ بازدراء، وتُستدعى كما لو كانت تعويذة سحرية.
التنسيق هو الآلية التي يُفترض أن تضمن مرورًا آمنًا لسيارة الإسعاف. في أحد المشاهد، يشرح مهدي -أحد الشخصيات الأربع المركزية- هذه العملية البيروقراطية القاتلة: يتصل بالصليب الأحمر في القدس؛ ثم يتصل الصليب الأحمر بوحدة في وزارة الدفاع الإسرائيلية تُسمّى “كوغات”. ثم تتفق “كوغات” مع القوات على الأرض على مسار؛ يُنقل المسار إلى الصليب الأحمر؛ ثم يعود إلى مهدي.
لكن استلام المسار لا يعني الحصول على “الضوء الأخضر”. فالضوء الأخضر خطوة أخرى، يجب انتظارها. يقول مهدي إنه ملزم باتباع الإجراءات حرفيًا، لأن أي تجاوز قد يُستخدم ذريعة لإطلاق النار على سيارة الإسعاف، ثم تحميل عمال الإنقاذ المسؤولية.
وكأي عملية بيروقراطية، يتكوّن التنسيق أساسًا من الانتظار.
عمر، عامل إنقاذ آخر، كان يتحدث مباشرة مع هند. الانتظار بالنسبة له لا يُطاق. يريد إرسال سيارة الإسعاف فورًا، بلا تنسيق. لكن مهدي يرفض المجازفة بحياة الطاقم على الأرض.
عندما تصبح الطاعة مشاركة في الجريمة
قفزت كلمة “التنسيق” إلى ذهني لأن لها صدى تاريخيًا ثقيلًا. في ألمانيا الثلاثينيات، استُخدمت كلمة Gleichschaltung لوصف عملية “الاصطفاف”: اصطفاف الجامعات، والنقابات، ورجال الأعمال، والأكاديميين خلف المشروع النازي. بعضهم فعل ذلك إيمانًا، وبعضهم طمعًا، وبعضهم خوفًا، لكن النتيجة كانت واحدة: المشاركة في نظام قاتل.
لم يكن ذلك في نية كوثر بن هنية، كما أوضحت لي لاحقًا، لكن الصدى حاضر بقوة.
في الفيلم، لا يملك أحد خيارًا حقيقيًا سوى التنسيق. لكن علاقتهم به تختلف جذريًا. مهدي يراه واجبًا أخلاقيًا: الالتزام بالقواعد لإنقاذ أكبر عدد ممكن. عمر يراه تواطؤًا: بثًا للخوف، وتمديدًا للأذى، وفي النهاية، قتلًا لطفلة.
يشير مهدي إلى صور عمال إنقاذ قُتلوا في غزة: إنه يحاول حماية من تبقّى. يصرخ عمر: “كيف يمكنك أن تنسّق مع الجيش الذي قتلهم وقتل كل هؤلاء الناس؟.
ثم يقول الجملة التي تُفجّر كل شيء: “بسبب أشخاص مثلك، نحن تحت الاحتلال”. ثم يتشاجران بالأيدي.
خبرة شخصية مع الضرورة القذرة
في الفيلم، يقترح عمر فكرة مشابهة: استخدام إنقاذ هند دعائيًا. يُقابل الاقتراح بذهول. ليس لأنه غير ذكي، بل لأنه غير قابل للتصديق. هناك فهم صامت: الفلسطينيون جُرّدوا من إنسانيتهم إلى حدٍّ يجعل حتى طفلة في الخامسة غير صالحة لأن تُرى كضحية.
النهاية التي نعرفها… والدرس الذي لا نريده في النهاية، يُعتمد المسار. لكن لا ضوء أخضر تحاول رنا، إحدى عاملات الإنقاذ، أن تشرح لهند أن عمال الإنقاذ عائلة كبيرة. تقول لها: “إخوتي وأخواتي في الهلال الأحمر ينسّقون… أقسم لكِ أننا نفعل ما بوسعنا”.
مرّت أكثر من ساعتين. تدخل أمّ هند على الخط. تسأل إن كان التنسيق قد تم. يطمئنونها.
كانت سيارة الإسعاف على بُعد نحو مئتي قدم من هند حين قُصفت. عاشت هند ساعة أخرى بعد ذلك.
وما لا يُعرض على الشاشة
فاز الفيلم بجائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان البندقية، ونال إشادة واسعة في تورونتو، وتواصلت معه شركات توزيع أمريكية كبرى، ثم انسحبت واحدة تلو الأخرى. في النهاية، اضطر صانعوه إلى شبه توزيع ذاتي في الولايات المتحدة. يُعرض الفيلم في نيويورك ولوس أنجليس فقط. أما في بقية العالم، فلديه موزعون كبار. لكن ليس في أمريكا، وليس في إسرائيل.
ذلك، أيضًا، نوعٌ من التنسيق.