22/11/2025
ثقافة و فن 32 قراءة
هستيريا «بلاك فرايداي»: «المول» معبد لا يشفي الروح!

الاشراق
الاشراق | متابعة.
تحوّل «بلاك فرايداي» إلى يوم تُباع فيه فكرة الخلاص عبر الاستهلاك، إذ تستثمر الشركات رموز النار والموت لتحفيز الشراء، مستندة إلى قلقٍ يسكن الأفراد ورغبة في الهروب من واقع مأزوم. تتجلى في هذا اليوم فوضى عنيفة تُحوِّل المراكز التجارية إلى ساحات صراع، ينتج منها قتلى وجرحى كل عام. الهستيريا الجماعية ليست مجرد اندفاع نحو السلعة، بل تعبير عن ميل بشري نحو التدمير الذاتي تستغله الرأسمالية وتحوّله إلى وقود لربحها. الشراء هنا يتجاوز كونه اقتناءً لمنتج، ليصبح طقساً عدمياً يَعِد بملء فراغ داخلي لا يُشف
يوشك الداخلُ إلى بيروت أو المغادرُ لها، أن يحس بلهيبٍ يحرق عينيه من شدّة ما تنهال عليه دعاية Sleep comfort التي تبثّها بلا كللٍ شاشات عرض الإعلانات الملتصقة بالطريق، أو المنتصبة فوق أسطح المباني، ولا تكفّ عن إعادة عرضها.
شركة المفروشات والأثاث المنزليّ ارتأت أن تجعل من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) بأكمله امتداداً لذلك اليوم الاستثنائيّ الذي يحلّ في آخر يوم جمعة من شهر نوفمبر، والمعروف بـ«بلاك فرايداي»، فأطلقت حملتها الترويجية تحت اسم: «بلاك نوفمبر».
وكترويجٍ لموسم التسوّق «النوفمبريّ» هذا، اعتمدت شركة المفروشات شعاراً صارخاً؛ صلفاً مثل أحداث راهننا وأحواله، جاء فيه: «حرقناها بكل شي». في الدعاية المعروضة على الشاشات، نرى ورقة الفاتورة التي تشير إلى سعر إحدى القطع وهي تشتعل. الخلفية سوداء كالحة. اللهيب يتقدم ويلتهم الورقة. أمامنا مشهد حريق يمتد ويتمدد أمام ناظرينا، ونحن نتسمّر أمام الشاشة ونتساءل: «حرقناها بكل شي» معناها أنّ النار هاته ستطاولنا أيضاً، وتحرقنا مع الفاتورة؟.
في طبيعة الحال، لا علاقة لحرائق «Sleep comfort» المفتعلة بحرائق أحراجنا وغاباتنا. كما لا علاقة لها بالحرائق في الجنوب اللبناني، المسؤولة عن إشعالها القنابل والصواريخ الإسرائيلية.
حرائق Sleep comfort مجاز. الحريق هنا يحيل إلى تخفيض الأسعار: كان سعر فرشة الزوجين بكذا دولار لكن غدا بفضل «بلاك نوفمبر» سعرها أقلّ. كأنها عملية «قتل»، أو هي كذلك حقاً: قتل الأسعار من دون المساس بـ«القيمة»، أي لا يتغيّر شيء في المنتج إلا سعره؛ أما إذا كان قتل سعر المنتَج هو حدث حقيقيّ أم جريمة مزيّفة، فهذا حديث آخر، فيما الخيار الثاني هو المرجّح.
مع Sleep comfort، جاء هذا القتل -قتل الأسعار- محمولاً على صورة قتلٍ أخرى؛ صورة رمزية عن قتلٍ لا يني يهدد حياتنا. جلّ العناصر التي استعانت بها Sleep comfort مثل «صورة» النار، و«كلمة» الحرائق، و«نبرة القوّة والتسلّط» (حرقناها بكل شي)... لهي رموز دالة على موتٍ يطاردنا يومياً.
لكي يتم الترويج للأسعار المقتولة، ولتنشيط «بلاك نوفمبر» وحثّ الناس على الشراء، حدثت محاكاة لما نخشاه لأننا نشعر باقترابه: الموت، أو بالأحرى الموت قتلاً. هل راهنت Sleep comfort على الشراء كممارسة لتفريغ قلق متربص فينا ويسكننا؟ كأن يكون الشراء في «بلاك نوفمبر» نوعاً من إنكار حاضر مأزوم ومهدد، نسيان لقتلٍ مؤجل؟
دعوة الى استهلاكٍ هستيري
وفي سياقٍ أوسع، إنّ «بلاك نوفمبر» بوصفه «بلاك فرايداي» لمدة شهر، لهو دعوة الى استهلاكٍ هستيري، ألا يقترن الاستهلاك والإفراط في شراء المنتجات بالموت، بالاغتراب، وبتدمير الذات... أي بالقتل؟
ليس من قبيل المصادفة أن يرافق هذا اليوم صفة السواد («بلاك»/ أسود). نحن غالباً ما نوسم يوماً مشؤوماً مثل يوم حصلت فيه مجزرة بالسواد، نقول عنه: يومٌ أسود. هكذا، نحفظ تاريخ الفاجعة، ونميّز يوم حدوثها عن سائر الأيام عبر إسباغها برمز الحداد، باللون الأسود، في أنّ السواد هنا شاهدٌ على المقتول.
ضحايا «بلاك فرايداي»
يستهّل المحرر في مجلة Current affairs أليكس سكوبيك مقالته «بلاك فرايداي. برج أحمر» (Black Friday. Red Tower) كالآتي: «في أواخر نوفمبر من عام 2008، مات جيديميتاي دامور دهساً. كان دامور رجلاً ضخماً، وكان عمره 34 عاماً فقط، لكن لا حجمه ولا شبابه كانا كافيين لإنقاذه. كان من سوء حظه أنه عمل كبائع تجزئة في متجر «وولمارت» في لونغ آيلاند، حدث ذاك نهار «بلاك فرايداي». ليس دامور الشخص الوحيد الذي قتلهُ هذا النهار.
تكشف الأرقام أنّ حوادث التدافع وحالات الدهس الناجمة عن هستيريا «بلاك فرايداي» قد أودت بحياة سبعة عشر شخصاً فيما أصيب نحو مئتين وخمسين آخرين في الولايات المتحدة الأميركية وحدها منذ عام 2006.
بعض القصص المنشورة على منصات العالم الافتراضي، مثل reddit، تروي كيف يهرع الناس إلى «المول» نصف مستيقظين ولا يزالون بالبيجاما، وكيف يبقى بعضهم مستيقظاً طوال الليل، منتظراً أن يفتح «المول» أبوابه. القصص كلها توحي أننا أمام حكايات عن «زومبيز» تقودهم رغبة عمياء: شهوة الاستهلاك.
على يوتيوب وباقي منصات التواصل الاجتماعي نشاهد فيديوهات عن أناسٍ يتدافعون، يتعاركون، يركلون بعضهم البعض، يحملون صناديق ويشدون عليها بأياديهم حتى لا «يسلبها» منهم الآخرون.
بين ليلةٍ وضحاها يتحوّل «المول» إلى حلبة مصارعة مفتوحة لكل أنواع الخشونة والعنف، قد تسلب الحياة من أحدهم، وقد يتعرض واحدهم للقتل. يصبح المكان صورة مكثّفة عن «الحالة الطبيعية» (حرب الجميع ضد الجميع) التي حكى عنها توماس هوبز.
جوهر الرأسمالية الدفين
تكشف هذه الفوضى الخوتاء التي تتجلّى مليّاً في هذا الحدث «الاستثنائي» عن جوهر دفينٍ للرأسمالية: هذه الكائنات التي تتحكّم بها غرائزها والمنصاعة لرغباتها تبدو مستعدة للقتل حتى تحصل على مرادها. غير أنّ هذه الكائنات بتصرفها اللاواعي المستعد للقتل ليست إلا انعكاساً لصورة «الأخ الأكبر» الذي يقتل بشكلٍ واعٍ، متحكماً ومخططاً لجرائمه.
بين ليلةٍ وضحاها يتحوّل «المول» إلى حلبة مصارعة مفتوحة لكل أنواع الخشونة والعنف
يعرض وثائقي Buy Now المعروض على نتفليكس كيف تقتل الشركات الكبيرة من أمازون وصولاً إلى «شي إن» الطبيعة -والإنسان- كما تخبرنا نعومي كلاين في كتابها «رأسمالية الكوارث» كيف أضحت السماء مليئة بالسموم الخارجة من الأرض من فرط ما حفرتها شركات الوقود. النظريات المناهضة للرأسمالية تفضي إلى القول إنّ «فعل» القتل هو «ليبيدو» الرأسمالية.
بيونغ تشول هان: «دافع الموت والرأسمالية»
يستعير المفكر الكوري بيونغ تشول هان مصطلح «دافع الموت» من فرويد، لكنه يتجاوز طابعه النفسي البحت ويمنحه بُعداً اجتماعياً واقتصادياً.
لقد لاحظ فرويد أن لدى البشر ميلاً غامضاً نحو العودة إلى حالة الجمود، يظهر في سلوكيات مدمّرة للذات حيث تتصارع غريزة الموت مع غريزة الحياة، وهو ما سمّاه «دافع الموت».
بالنسبة إلى بيونغ تشول هان، فإن هذا النزوع البشري نحو التدمير الذاتي يُستغل من قبل الرأسمالية التي لا تكتفي بتحفيز الرغبات اللاواعية فقط، بل تحوّل أيضاً الميل الكامن في النفس البشرية نحو التدمير الذاتي إلى وقودٍ لها: إنها تعززها وتستغلها وتستثمر فيها.
«دافع الموت» عند فرويد قوّة لا واعية تسير على نحو غامض نحو الجمود والضرر. هذه القوة اللاواعية تظهر بحسب بيونغ تشول هان في الهستيريا الجماعية، في الاستهلاك المفرط، وفي العنف الرمزي والجسدي الناتج من التنافس على المنتجات.
نحن نشتري، نكد، ونتقاتل على السلع كمن يواجه قضية حياة أو موت؛ نقتل أنفسنا أو نقتل الآخرين، فتغدو جثثنا قيامة الأرباح. هكذا، يتحوّل ما اعتبره فرويد موتاً يمسّ النفس إلى موتٍ يحرّك المستوى الاقتصاديّ مع لهان؛ ويصير التدمير الذاتي أداةً استهلاكية ويصبح الاستهلاك طقساً شعائرياً للموت.
إذا كان «المول» عمارة ضخمة من شأنها أن تشعر الكائن البشري بالضحالة، وبأنه كائن صغير ينجلي عليه سحر المنتجات، أو «فيتيشية البضائع» بالمعنى الماركسي، ليس «بلاك فرايداي» إذن إلا يوماً عدمياً يرسم فيه المرء مراسم جنازته.
دين عدميّ
في العام الماضي، انخرط حوالى مئتي وخمسة ملايين أميركي في طقس «بلاك فرايداي». في مقالٍ نشرته مجلة «ذو كونفرزايشن» عام 2015، فقد قدّر حجم الإنفاق في بريطانيا في «بلاك فرايداي» بـ«1.39 مليار جنيه إسترليني يوم الجمعة. وتقدّر المبيعات عبر الإنترنت بنحو 966 مليون جنيه إسترليني، و3.5 مليارات جنيه إسترليني في نهاية الأسبوع بأكمله».
يوحي هذا الإنفاق الهائل، وعدد القتلى والجرحى (قتيل كل سنة تقريباً) الذي خلفته «بلاك فرايداي» وراءها، إضافة إلى المخاطر التي تهدد حياة المستهلكين بشيء أبعد من الاستهلاك، كأنه فعل عدمي «أعلى» من الاستهلاك ذاته.
في «بلاك فرايداي» تنفق كل المدخرات، الأموال التي «وضعت جانباً». تخصّص لهذا اليوم تحديداً، الخطر الذي يلوح أمام الناس والمشاهد المؤلمة التي تتكرر كل سنة لا تكبحهم عن الذهاب إلى التسوّق، بل تزيدهم إصراراً على الذهاب إلى التسوّق ولو كان الموت وشيكاً.
ثمة مخاطرة بكل شيء، كأنّ في طيات هذه المخاطرة، هذا الاقتراب من الموت، «وعداً ما» حاضراً. سلافوي جيجك يرى أنّ هذه الممارسة التي نصفها بالعدمية، تفصح عن شيء أبعد من الاستهلاك. إنها بالنسبة إليه «فعل إيمان».
يعتقد جيجك أنّ الرأسمالية شيّدت لنفسها ديناً جديداً اسمه التسوّق. لقد غدا «المول» معبداً «يحجّ» الناس إليه. لقد صار الشراء طقس خلاص والسلعة أيقونة تعبد. لا شيء يتفوق هذه العدمية ربما سوى عبادة الديكتاتور.
بالنسبة إلى جيجك، فإننا لا نذهب لاقتناء الأشياء بقدر ما نذهب لملء فراغٍ داخلي تصوّره لنا الإعلانات، ثم تعرضه علينا «علاجاً» في شكل منتجات لامعة ومتوهّجة. الرأسمالية إذاً لا تبيع البضائع فقط، بل تبيع هويات جاهزة وتعدنا بالخلاص عبر تملّك هذه البضائع التي تعطينا شكلنا ومضموننا، أي ذواتنا.
يعتقد جيجك أنّ الرأسمالية شيّدت لنفسها ديناً جديداً اسمه التسوّق
في ظل هذا الوعد العدميّ، يتوهّم المرء أنه يختار بحرية، فيما رغباته مشكّلة مسبقاً على مقاس السوق. لحظة الشراء تمنح الشاري ضوءاً قصيراً يشبه «نشوة دينية»، ولكنه سرعان ما يخفت ليُعيد إنتاج الرغبة ذاتها مجدداً.
نحن إزاء دين استهلاك يقوم على دورةٍ كاملة: رغبة، شراء، نشوة، ذنب، ثم رغبة جديدة.
وهكذا يدخل الإنسان في ماكينة لا تتوقف، يستهلك ذاته بالقدر الذي يستهلك فيه البضائع، إذا لم يشتر سيشعر بالذنب، وإن تجاوز قدرته المادية على الشراء وهو الخيار المرجح، فسيشعر بالذنب من جديد، وحتى يتطهّر من ذنوبه، فسيلجأ إلى الشراء للترفيه عن النفس وللتفريغ.
لكن جيجك لا يتوقف عند النقد، بل يرسم درباً حقيقياً للخلاص ويشرع في التنظير لفعلٍ مضاد. يدعونا إلى أن نسائل هذا «الإيمان الخفي»، أو «الوعي الزائف»، فالسؤال الحقيقي ليس ماذا نشتري، بل ماذا نخسر في كلّ مرة نشتري فيها معنى جاهزاً لوجودنا.
علينا التمييز أولاً بين ما نرغب فيه حقاً وما يُزرع فينا. علينا أيضاً استعادة ذواتنا من تحت ركام العلامات التجارية التي باتت تدلّ على هويتنا وتفصح عنّا.
فقط في لبنان
السائر في شوارع بيروت يرى في دعاية Sleep comfort المعروضة على الشاشات ورقة الفاتورة وهي تشتعل، وراءها خلفية سوداء كالحة. سواد ينذر بأن ما «هو أمامنا» هو أفق معتم. النار تعلو شيئاً فشيئاً، ولهيبها يحرق ورقة الفاتورة. أمامنا مشهد حريق يمتد ويتمدد أمام ناظرينا، يتسمّر واحدنا أمام الشاشة ويقول: «احترق كل شيء، ويكاد هذا الحريق يعمي عينيّ».
بقلم بول مخلوف.