القنبلة الثقافية .. حين يصفي الاستعمار العقول قبل الموارد!

ishraq

الاشراق

الاشراق | متابعة.

نعوجي واثيونغو كاتب من كينيا، كان يكتب بالإنكليزية ثم اتجه للكتابة بلغة بلاده (كينيا)، كتابه «تصفية استعمار العقل» كتاب عظيم يُحلل بعمق معنى الاستعمار. فمن المعروف أن رأس المال الغربي والأمريكي الذي يسرق بلدان افريقيا وأمريكا اللاتينية وغيرها من البلدان، هذه البلدان هي تحت تأثير الأسلحة التقليدية والنووية. الاستعمار الذي تقوده أمريكا يتقدم إلى شعوب الأرض المناضلة، وكل الداعين للسلام والديمقراطية بإنذار: قبول السرقة أو الموت، لكن نعوجي واثيونغو يحكي بعمق وبراعة عن السلاح الأكبر والأخطر الذي أعده الاستعمار وهو (القنبلة الثقافية)، التي تعني إبادة إيمان الشعب بنفسه وإبادة إيمانه بلغته وثقافته وإرثه النضالي ووحدته وقدراته، أي أن القنبلة الثقافية تجعل الشعب ينظر إلى تاريخه باعتباره يبابا لا منجز فيه وتجعلهم يريدون التماهي مع لغات شعوب أخرى، لا مع لغتهم هم. إنها تجعلهم يتماهون مع كل ما هو منحط ورجعي، مع كل تلك القوى التي تحبس ينابيع حياتهم ذاتها. القنبلة الثقافية للاستعمار تزرع شكوكا جدية بالصواب الأخلاقي للنضال، وإمكانيات الظفر والانتصار، يُنظر إليها كأحلام مُضحكة بعيدة المنال.
إن الاستعمار كي يحقق أهدافه، يُصر بطرائق عديدة على جعل سكان المُستعمرات تنبهر باللغة والأدب للدولة المستعمرة، أي العبادة الخالصة لكل ما هو أجنبي، حتى لو كان ميتا. لذا كان مؤتمر 1962 (كتاب أفارقة يكتبون باللغة الإنكليزية) مجرد اعتراف بالموافقة والفخر بما تم ـ على مر السنين ـ من تعليم انتقائي وتلقين شديد، أي بما قادنا إلى تقبل المنطق القدري لمركز اللغة الإنكليزية الراسخ في الأدب الافريقي، كان المنطق المتجسد في الاستعمار وتأثيراته والقنبلة الثقافية قد حقق الانتصار الأكبر حيث شرع المُسيطر عليهم يتغنون بفضائل النظام.

المؤسف أن انبعاث الثقافات الافريقية يكمن في لغات أوروبية (خاصة الإنكليزية والفرنسية)، اللغة الإنكليزية بالنسبة للبريطانيين حاملة لثقافتهم، لكنها ليست كذلك بالنسبة للافارقة، أدرك الاستعمار ذلك فالسيطرة الاقتصادية والسياسية، لا يُمكن أن تكون مؤثرة من دون السيطرة الذهنية، السيطرة على ثقافة شعب هي السيطرة على الأدوات التي يعرفون بها هويتهم. وثمة تعبير (خذوهم صغاراً)، أي التأثير على الأطفال الافارقة تجعل الطفل (والافريقي) يرى نفسه من خارج نفسه، كما لو أن نفسه نفس أخرى، ولا يهم إن كان الأدب المستورد يحمل أعظم التراث الإنساني في أفضل ما كتبه شكسبير وغوته، بلزاك، تولستوي غوركي ديكنز إلخ. المهم أن يؤمن الافريقي (والأطفال خاصة) أن أوروبا تاريخها وثقافتها هي مركز الكون، أما اللغات الوطنية الكثيرة للأفارقة فارتبطت بالمهانة والحطة والبربرية، وبطء التفكير، والغباء الصارخ وعدم الفهم.
يطرح نغوجي واثيونغو سؤالاً بالغ الأهمية: ما الفرق بين كاتب يقول افريقيا لا بد لها من الاستعمار، وكاتب يقول لا بد من اللغات الأوروبية للأفارقة؟ في كينيا سجن البريطانيون الكاتب الكيني جاكارا واو انجو عشر سنوات (من 1952إلى 1962 ) بسبب كتابته باللغة الكينية الكيكويو، كتابته هي يوميات احتفظ بها في السجن السياسي، فالمبدع الافريقي محروم من استعمال لغته ومنقطع عن التواصل العميق الإنساني مع شعبه، وكل المدائح للأدب الافريقي تكون للأدباء الذين يكتبون بلغة المستعمر، كل هذه المدائح سوف تذهب إلى الكولونيالية، وحين أدركت الدول المستعمرة أنه لم يعد باستطاعتها أن تجعل محكوميها عبيداً حولتهم إلى مثقفين طائفيين. لكن الكاتب جاكارا واوانجو وجد دار نشر (دار هانيمان) نشرت كتابه بلغة كينيا (الكيكويو) ونال سنة 1984جائزة نوما. إن كتابته بلغة وطنه كينيا كانت ككيان مليء بالقوة والإبداع والتعبير عن شعبه، خاصة الفلاحين والعمال الناطقين باللغات الأوروبية، كانوا محشوين بعقلية متذبذبة، وتأمل ذاتي مراوغ، وبوضع بشري يُعاني من أسى وجودي.
وفي عام 1981 قام ألبير جيرار في كتابه «آداب اللغة الافريقية» ضمن خلود اللغات الافريقية في الطباعة رغم الضغوط الخارجية لخنقها، لكن كتاب هيغل «فلسفة التاريخ»، الذي صدر في نيويورك عام 1965، يكشف هيغل عن نفسه كأنه هتلر الذكاء للقرن التاسع عشر، ففي محاضرته فلسفة التاريخ يقدم مشروعية عقلية وفلسفية وتاريخية لكل الأسس والممارسات العنصرية الأوروبية على افريقيا. وقد حرم افريقيا حتى من جغرافيتها، حيث لا تتفق الجغرافيا مع الأسطورة، وهكذا صار الشمال الافريقي جزءاً من أوروبا. مؤسف هذا التفكير لدى فيلسوف عظيم كهيغل. لكنه أيد الكولونيالية التي تضمنت خطتين للسيطرة على البلدان والشعوب المُستعمرة وهي التدمير أو الحط المُتعمد لثقافة شعب، لفنه، لرقصاته، لديانته، لجغرافيته، لتعليمه، لأدبه. ومن جهة أخرى الإعلاء الواعي من شأن لغة المستعمر أي أن تحكم لغات الدول الاستعمارية لغة شعب أسير الدولة المستعمرة، أي التحكم الذهني للمُستعمر.
وصار تعليم الطفل الافريقي الذي تحول إلى طفل كولونيالي، يحكي بلغة المستعمر باعتبارها اللغة الوحيدة الحاملة للثقافة والحضارة. لكن نغوجي واثيونغو الذي كتب رواية «شيطان على الصليب» بلغة الكيكويو أي لغة وطنه كينيا ويحكي عن معاناة شعبه، قال في ما بعد بكل وضوح، إنه على الرغم من اللغة الكولونيالية التي فُرضت عليه، إلا أنه لو مُنح الخيار لاختار اللغة الفرنسية قال: نحن نعبر عن أنفسنا باللغة الفرنسية، لأن الفرنسية لغة كونية، أما الهالة التي تحيط بلغتنا الافريقية فهي بطبيعتها مجرد نسغ ودم. أما الكلمات الفرنسية فإنها تُرسل آلاف الأشعة مثل قطع الماس. بعد هذا التصريح كوفئ سنغور بتطويبه في مكان مُشرف في الأكاديمية الفرنسية. ثمة كتاب أفارقة عظماء مثل شينوا أتشيبي وروايته «فتيات في الحرب» حيث بين كيف تم توريط بلدان افريقية في حروب أهلية وقبلية، كذلك كتاب «معذبون في الأرض» لفرانز فانون. كتاب تحرروا من تأثير الكولونيالية ومن القنبلة الثقافية وأبدعوا في الكتابة عن معاناة شعوبهم. وإذا كانت أغنية الأمس: دع البورجوازي يمسك بالعنان، فإن أغنية اليوم: دع العامل يُمسك بالعنان.
يوقل الكاتب الافريقي أوبي والي: لا يُمكن أن يُكتب الأدب الافريقي إلا باللغات الافريقية أي لغات العمال والفلاحين الافارقة والقطيعة الثورية مع النيو كولونيالية.
من الصعب الإحاطة الكاملة بكتاب «تصفية استعمار العقل» لنغوجي واثيونغو، لكنه كتاب بالغ الأهمية يبين أساليب الاستعمار في السيطرة على بلدان وشعوب العالم عن طريق القنبلة الثقافية التي تحدث عنها باستفاضة نغوجي. أخيراً اللغويون الأفارقة كانوا أكثر تقدمية في نظرتهم إلى موضوع اللغة ممن يقابلونهم في الأدب الإبداعي والباحث الراحل دايفيد ديوب من السنغال وأوبي والي من نيجيريا وغيرهم كثر. من المهم أن نعرف أنه كان في مختلف أجزاء افريقيا، وعلى مر السنين كتاب كتبوا وظلوا يكتبون بلغات افريقية. ولا بد من الإشادة بالترجمة الإبداعية لسعدي يوسف.

هيفاء بيطار - كاتبة سورية.

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP