23/10/2025
تقاریر 16 قراءة
النصر بين القوة والإدراك في الحروب اللامتماثلة

الاشراقالنصر بين القوة والإدراك في الحروب اللامتماثلة
الاشراق | متابعة.
يُعدّ مفهوم «النصر» من أكثر المفاهيم تعقيداً وإشكالية في الدراسات العسكرية والاستراتيجية، خصوصاً في سياق الحروب اللامتماثلة التي تتجاوز فيها المواجهة حدود القوة المادية لتصل إلى ميادين السياسة والإدراك والمعنى.
ففي الحروب التقليدية، يرتبط النصر عادة بتحقيق السيطرة على الأرض أو تدمير قوات الخصم أو فرض استسلامه الكامل. أما في الحروب اللامتماثلة، حيث يتقابل طرف قوي يمتلك جيشاً نظامياً متطوراً مع طرف ضعيف يستخدم أساليب غير تقليدية، فإن معايير النصر تتبدّل لتصبح أكثر مرونة وتعقيداً، ممتزجة بين المادي والرمزي، العسكري والسياسي، والمعنوي والإدراكي.
من هذا المنطلق، يتحوّل «النصر» إلى مفهوم متعدد الأبعاد، يتجاوز حدود الميدان ليصل إلى التأثير في الإرادة والوعي العام وصوغ السردية المهيمنة على الصراع.
وكان مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير «يوفيد» قد نشر ورقة بحثية حول الموضوع تحت عنوان «النصر في الحرب اللامتماثلة»، والتي تمّ الاستفادة منها في كتابة هذا المقال.
تعريف النصر في الحرب اللامتماثلة
تقوم الحرب اللامتماثلة على مواجهة غير متكافئة في القدرات العسكرية والتقنية والاقتصادية، حيث يمتلك الطرف الأقوى جيشاً منظماً وأسلحة متطورة وقدرات استخباراتية متقدمة، بينما يعتمد الطرف الأضعف على أساليب غير تقليدية تشمل حرب العصابات، الكمائن، العمليات النفسية، واستثمار البيئة المحلية. وعلى عكس الحروب النظامية، لا يكون الهدف الأساسي للطرف الأضعف تدمير العدو مادياً بقدر ما يكون إرهاقه سياسياً ومعنوياً وتحويل قوته إلى عبء استراتيجي.
وتواجه القوى الكبرى في هذه الحروب تحديات جوهرية، أبرزها القيود السياسية التي تحدّ من استخدامها للقوة المفرطة خشية فقدان الشرعية الدولية، إلى جانب عامل الزمن الذي يعمل لصالح الطرف الأضعف كلما طال أمد الصراع، إضافة إلى الضغط الداخلي من الرأي العام الذي لا يحتمل حروباً طويلة غير محسومة، ما يجعل تحقيق النصر العسكري الحاسم أمراً شبه مستحيل.
مفهوم النصر في هذه الحروب لم يعد مرتبطاً بالحسم الميداني التقليدي، بل بقدرة الطرف الأضعف على تحقيق أهدافه السياسية والإدراكية. فبينما يُقاس النصر في الحرب التقليدية بتدمير العدو والسيطرة على أراضيه، يُقاس في الحرب اللامتماثلة بمدى قدرة الطرف الأضعف على فرض إرادته السياسية أو تعديل سلوك الطرف الأقوى، وتحقيق مكاسب رمزية واستراتيجية دون الحاجة إلى التفوق العسكري.
وفي هذا السياق، يرى كارل فون كلاوزفيتز، وهو جنرال وباحث عسكري بروسي والذي يُعدّ من أبرز منظّري العلم العسكري، أن النصر ليس غاية بحد ذاته، بل وسيلة لتحقيق الهدف السياسي، وأن استنزاف الإرادة السياسية للطرف الأقوى يشكّل نصراً استراتيجياً للطرف الأضعف. ويؤكد العقيد في البحرية الأميركية، مايكل غريفين، أن الحروب اللامتماثلة لا يمكن أن تُقاس فيها النتائج وفق منطق الحسم العسكري البحت، لأنها نزاعات سياسية واجتماعية بالدرجة الأولى، في حين يوضح المؤرخ العسكري والأستاذ في الجامعة العبرية في القدس، فان كريفيلد، أن معيار النصر أصبح سياسياً واستراتيجياً، ويرى دانيال ريغز، وهو ضابط في الجيش الأميركي يُعنى بدراسة الحروب غير المتماثلة وتصميم العمليات العسكرية، أن النصر في هذه الحروب حالة إدراكية أكثر من كونه نتيجة ميدانية، لأنه يتحقق عندما تتبدّل تصورات الخصم عن جدوى الحرب.
ويُعزّز إيفان أريغوين-توفت، وهو باحث وأستاذ جامعي أمريكي في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، متخصص في دراسة الصراعات المسلحة والحروب اللامتماثلة، هذا الطرح عبر فرضيته الإحصائية التي أظهرت أن الطرف الأضعف ينتصر بنسبة عالية عندما يستخدم أسلوباً استراتيجياً مغايراً للأسلوب الذي يعتمده الطرف الأقوى، ما يتيح له تحويل نقاط ضعفه إلى مصادر قوة حقيقية. ثم، لم يعد مفهوم النصر في العصر الحديث يقتصر على البعد العسكري، بل يشمل أيضاً أبعاداً سياسية، اقتصادية، مدنية ومعنوية تتجاوز نطاق المعارك الميدانية.
أبعاد النصر ومحدّداته
يتوزّع مفهوم النصر في الحروب اللامتماثلة على مجموعة من الأبعاد المتكاملة التي تجعل منه عملية تراكمية ومعقدة لا تُقاس بنتيجة واحدة، إذ يتداخل فيها الإدراكي بالبنيَوي والسياسي بالرمزي، لتشكّل معاً الإطار الذي يُحدّد معنى الانتصار ومضمونه. فالبعد الإدراكي يمثّل الأساس الأول للنصر، إذ يتحقق عندما يتمكن أحد الأطراف من فرض تصوره للواقع على الطرف الآخر، إذ يقتنع الخصم بأن استمرار الحرب لم يعد مجدياً أو ممكناً، وهو ما يحوّل النصر إلى مسألة وعي وإدراك أكثر من كونه إنجازاً ميدانياً. أما البعد البنيوي، فيظهر في قدرة الفاعل الأضعف على تغيير البيئة التي تُغذّي الصراع سواء على المستوى السياسي أو الإعلامي أو الشعبي، إذ يعيد تشكيل النظام الذي تستند إليه القوة المعادية.
ويتكامل ذلك مع البعد الزمني، إذ يصبح الزمن سلاحاً استراتيجياً بيد الطرف الأضعف؛ فكلما طال أمد الحرب، تآكلت شرعية العدو وتراجعت قدرته على الصمود سياسياً وشعبياً. ويبرز البعد الاقتصادي باعتباره أحد محركات النصر غير المباشرة، إذ تُعدّ كل تكلفة مادية أو مالية يتحملها الطرف القوي تفوق مكاسبه الميدانية خسارة استراتيجية تصبّ في مصلحة الطرف الأضعف. ويضاف إلى ذلك البعد السياسي الذي يتمثل في تحقيق الأهداف الكبرى دون الحاجة إلى التفوق العسكري، عبر فرض الإرادة السياسية أو تعديل سلوك الخصم بما يخدم مصالح الطرف الأضعف.
كما يجسّد البعد الرمزي والنفسي القدرة على كسب الشرعية المعنوية وحشد دعم الرأي العام، إلى جانب إضعاف معنويات العدو وتشويه صورته، ويتلاقى ذلك مع البعد السردي الذي يسمح للطرف الأضعف بتحويل الهزائم العسكرية إلى مكاسب رمزية عبر التحكم في الرواية المهيمنة والتأثير في إدراك الجماهير. وأخيراً، يأتي البعد الاستراتيجي الذي يتمثل في قدرة الطرف الأضعف على إعادة تشكيل بيئة الصراع بما يضمن مصالحه طويلة الأمد، حتى وإن خسر بعض الجولات الميدانية، فيتحقّق النصر بوصفه تحوّلاً بنيوياً وإدراكياً شاملاً لا مجرد حدث عسكري عابر.
يتحدّد «النصر» في الحروب اللامتماثلة بعدة عناصر أساسية، أبرزها قدرة أحد الأطراف على فرض تعريفه الخاص للنجاح، التحكم في إيقاع الصراع، تحقيق مكاسب سياسية بتكاليف أقل من خصمه واستنزاف إرادته السياسية. ويستطيع الطرف الأضعف تحقيق هذا النصر، عبر توظيف مجموعة من الأدوات غير التقليدية أبرزها: المرونة الميدانية، استخدام البيئة المحلية، استغلال نقاط ضعف الخصم، والاعتماد على التآكل التدريجي بدل المواجهة المباشرة.
كما يستفيد من أدوات الحرب النفسية والدعاية السياسية، ويستثمر الصبر الزمني ونزع الشرعية الدولية عن العدو. وتُعدّ التكلفة المتزايدة للحرب من أهم عوامل ترجيح كفّة الطرف الأضعف، إذ تتحوّل الحرب إلى عبء اقتصادي وسياسي يفوق العائد الاستراتيجي، بما يحقق له تفوّقاً نسبياً رغم محدودية قدراته العسكرية.
وبالتالي، يتضح أن «النصر» في الحروب اللامتماثلة ليس لحظة فاصلة، بل مسار تراكمي تتفاعل فيه الرمزية والإدراك والاستراتيجية لتعيد تعريف معنى الانتصار ذاته.
تُعدّ الحرب على غزة نموذجاً حياً لمفهوم «النصر» في الحروب اللامتماثلة، إذ واجهت حركة «حماس» قوة عسكرية فائقة التفوق من حيث العتاد والاستخبارات والتكنولوجيا، ولكنها تمكنت من الصمود والمناورة، محوّلة الحرب إلى معركة إرادة بدل الحسم العسكري. فرغم الدمار الواسع الذي لحق بالقطاع، إلّا أن الحركة حافظت على وجودها التنظيمي والسياسي، وأفشلت هدف العدو في اجتثاثها، مستفيدة من البيئة الحضرية، والأنفاق، والحرب النفسية، والإعلامية.
كما نجحت في تحويل الخسائر الإنسانية إلى أداة ضغط سياسي دولي عزّزت سردية المقاومة، وأظهرت فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه المعلنة. ومع طول أمد الحرب، تعرّض الاحتلال لعزلة دولية متزايدة، وضغوط داخلية واقتصادية، وتراجع في الثقة السياسية والعسكرية، في حين حافظت المقاومة على دعم شعبي محلي وعالمي واسع.
يمكن القول إن النصر في هذه الحالة نسبيّ ومعنويّ، إذ لم يتحقق حسم عسكري لأي من الطرفين، لكن المقاومة نجحت في تحقيق أهدافها الجوهرية المتمثلة في البقاء، واستنزاف الخصم، وفرض شروطها في جولات التهدئة، والحفاظ على شرعيتها الرمزية.
أما العدو، فرغم تحقيقه إنجازات تكتيكية، فقد فشل استراتيجياً في إنهاء الصراع أو إعادة صياغة البيئة السياسية بما يخدم أهدافه. ولا بدّ من الإشارة إلى أن ملامح المنتصر النهائي في هذه المعركة لم تتبلور بعد، إذ يرتبط الحسم الفعلي ارتباطاً وثيقاً بمآلات المرحلة المقبلة وما ستفرزه من تفاعلات سياسية وعسكرية متسارعة.
فعملية تحديد الطرف الذي يمكن اعتباره «الرابح» لا تزال رهينة مجموعة من المتغيرات المحورية التي لم تتضح نتائجها بعد. ويأتي في مقدمة هذه المتغيرات مصير البنية العسكرية لـ«حماس»، بما في ذلك إمكانية نزع سلاحها أو احتفاظها بقدراتها القتالية والتنظيمية، إلى جانب طبيعة السلطة التي ستتولى الحكم في قطاع غزة، وما إذا كانت سلطة مناوئة للمقاومة أم منبثقة عنها، فضلاً عن مؤشرات أخرى ستحددها التطورات المستقبلية، والتوازن النهائي بين هذه المتغيرات هو ما سيحسم كفّة الطرف الذي يمكن اعتباره المنتصر الأساسي في هذه الجولة.
يتّضح، بناء على ما تقدّم، أن مفهوم «النصر في الحروب اللامتماثلة» يختلف جذرياً عن التصوّر التقليدي المرتبط بالحسم العسكري، فهو سياسي بالدرجة الأولى، يُقاس بمدى نجاح الطرف الأضعف في تحقيق أهدافه الجوهرية مثل البقاء، كسب الاعتراف، أو إجبار العدو على تعديل أهدافه. كما إن هذا النصر نسبي ورمزي، إذ يُعدّ مجرّد الصمود والمقاومة والإرادة بالاستمرار في مواجهة قوة تفوقه عتاداً وعدداً، رغم الأثمان، شكلاً من أشكال الانتصار الاستراتيجي.
ويتجلّى التحوّل الأعمق، في أن النصر لم يعد يُحدّد بالسيطرة الميدانية، بل بالسيطرة الإدراكية والسردية، أي بقدرة الطرف الأضعف على ترسيخ روايته وإقناع الرأي العام بشرعية قضيته. أمّا الزمن، فيغدو سلاحه الأبرز، إذ يعتمد على استنزاف الخصم سياسياً واقتصادياً ومعنوياً، محوّلاً طول أمد الحرب إلى أداة استراتيجية لتحقيق النصر. وبذلك، يُصبح «النصر» في الحرب اللامتماثلة عملية إدراكية وسياسية طويلة المدى، تُنتزع بالإرادة والصمود أكثر مما تُحسم بالقوة.
بقلم نيفين قطيش - لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء المذكورة