16/10/2025
السورة 16 قراءة
نموذج ترامب مع مريام أدلسون وآلة الضمّ: المليارديرات والاستعمار وسياسة الاحتلال

الاشراق
الاشراق | متابعة.
احتوى خطاب دونالد ترامب في الكنيست الإسرائيلي قبل أيام، على جميع سمات أسلوبه البلاغي المعهودة: إطراء، مبالغة، فكاهة وسرد قصصي. لكنّ لحظةً واحدةً اخترقت العرض المسرحي: تكريمه لمريام أدلسون، أرملة إمبراطور الكازينوهات شلدون أدلسون، التي نسب إليها الفضل في صياغة بعضٍ من أهم القرارات الأميركية المتعلّقة بإسرائيل. مازحها ترامب بشأن ثروتها، وغمز قائلاً إنها «تحب إسرائيل أكثر من أميركا»، وتذكّر كيف أن «جرأة» شلدون دفعته إلى الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان المحتلّة.
ما بدا للجمهور حديثاً ودّياً، كان في الحقيقة اعترافاً مذهلاً بكيفية إضفاء الشرعية على السطو الاستعماري من خلال التحالف بين الثروة والسياسة والنفوذ الشخصي. لم يكن آل أدلسون مجرّد محسنين، بل كانوا فاعلين محوريين في تحويل السياسة الخارجية الأميركية بما يكرّس الاحتلال، ويمحو المطالب الفلسطينية، ويطبع الضمّ.
من هم آل أدلسون؟
انطلق شلدون أدلسون من بدايات متواضعة ليبني إمبراطورية كازينوهات بمليارات الدولارات في لاس فيغاس وماكاو. أما زوجته، الطبيبة الإسرائيلية المولد مريام أدلسون، فقد أصبحت شريكةً في العمل الخيري وقوة سياسية بحد ذاتها. مكّنتهما ثروتهما المُقدّرة بأكثر من 60 مليار دولار من أن يصبحا أكبر المتبرعين في تاريخ الحزب الجمهوري.
تجاوزت تدخلات آل أدلسون السياسية حدود التبرعات. فقد رسّخوا أنفسهم كصانعي ملوك، يموّلون المرشحين ويضمنون ولاءهم لرؤيتهم حول «إسرائيل الكبرى». تمتلك مريام أيضاً صحيفة إسرائيل هيوم، إحدى أكثر الصحف الإسرائيلية تأثيراً، والتي تتماشى دوماً مع سياسات اليمين الصهيوني وأجندة بنيامين نتنياهو.
هذا المزيج من الثروة، وقوة الإعلام، والوضوح الأيديولوجي جعل من آل أدلسون حالة فريدة. لم يكونوا مموّلين سلبيين، بل مهندسين للسياسات، يصوغون النقاشات ويضمنون أن حلفاءهم السياسيين ينفّذون قضايا التوسّع الإسرائيلي الأساسية: القدس، المستوطنات والجولان.
الرأسمالية والاستعمار: علاقة بنيوية
يجب فهم تأثير آل أدلسون ضمن العلاقة البنيوية الأوسع بين الرأسمالية والاستعمار. كما أشار ماركس في رأس المال: «إن اكتشاف الذهب والفضة في أميركا، وإبادة السكان الأصليين واستعبادهم ودفنهم في المناجم… هي كلّها سمات فجر الحقبة الرأسمالية»، أي إن الاستعمار ليس عرضياً للرأسمالية، بل هو مكوّن جوهري لها.
أولاً: الهند البريطانية: تُظهر شركة الهند الشرقية كيف أصبحت المؤسسة التجارية رأس الحربة للإمبراطورية. ثروة القطاع الخاص استُخدمت لقيادة الجيوش وفرض السياسات ونهب الموارد.
ثانياً: تقسيم أفريقيا: في مؤتمر برلين 1884–1885، اقتسمت القوى الأوروبية القارة بدعم من المصرفيين والصناعيين الباحثين عن المطاط والذهب والألماس.
ثالثاًٍ: دولة الكونغو الحرة: حكم ليوبولد الثاني الشخصي للكونغو، بذريعة «التمدين»، عمل كآلة استخراج رأسمالية دمّرت حياة الملايين.
رابعاً: الجزائر الفرنسية: ارتبط الاستيطان والاستيلاء على الأراضي ارتباطاً وثيقاً بالرأسمالية الزراعية، إذ استحوذ المستوطنون الفرنسيون على الأراضي لزراعة الكروم والحبوب.
في كلّ هذه الحالات، لم تكن الثروة الخاصة تؤثّر فقط، بل كانت تُوجّه السياسة الاستعمارية. إن كشف ترامب أن آل أدلسون لعبوا دوراً مباشراً في الاعتراف الأميركي بضمّ الجولان يؤكد استمرار هذا النمط التاريخي في القرن الحادي والعشرين: تلتقي الثروة بالأيديولوجيا لتجعل الاحتلال مربحاً وطبيعياً.
المتبرّعون كمهندسي الضمّ
قدّم ترامب لمحة نادرة عن كيفية تشكيل لوبيات المتبرعين لسياسة إدارته في الشرق الأوسط، وهناك أمثلة عملانية لما يحصل منها:
- نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة (2018)، وهو المطلب الدائم للمانحين الموالين لإسرائيل، وفيه شطب كامل وكلّي لمطالب الفلسطينيين بالقدس الشرقية وأضفى شرعية رمزية على الضمّ. بلغة غرامشي، لم يكن هذا مجرد فعل ترامبي، بل مناورة هيمنية أعادت تشكيل الخطاب الدولي.
- سيادة إسرائيل على الجولان. حيث قرّر ترامب في عام 2019، الاعتراف بضمّ إسرائيل لأرضٍ سورية محتلة منذ عام 1967، مخالفاً القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة. بإسناده القرار إلى آل أدلسون، كشف الطابع الخاص والصفقي لقرار ذي تداعيات كبرى.
- تخلّي الإدارة الأميركية عن الموقف الأميركي الذي يعتبر المستوطنات غير شرعية. وهذا التحوّل الخطابي، المتناغم مع رؤية آل أدلسون، حوّل التوسّع الاستعماري إلى «واقع مقبول»، على غرار ما وصفه إدوارد سعيد بـ«تطبيع اللامألوف» في الخطاب الإمبريالي. وما صوّره ترامب على أنه «قصص شخصية، لم يكن في الحقيقة سوى نافذة على كيفية استخدام رأس المال لضمان السيادة الاستعمارية عبر الدولة».
الولاء المزدوج أم الولاء الإمبريالي؟
في خطابه، مازح ترامب مريام أدلسون فسألها: هل تحبين إسرائيل أم الولايات المتحدة أكثر؟. هي مزحة أثارت جدلاً حول إعادة إنتاج صورة «الولاء المزدوج» المعادي لليهود. لكنّ المسألة الأعمق ليست ولاء مريام، بل ولاء ترامب نفسه. فالولاء المزدوج الحقيقي هو ولاء الرؤساء الأميركيين بين مبدأ القانون الدولي ومتطلبات المانحين الأثرياء. وعندما اضطر ترامب إلى الاختيار، اصطفّ مع رأس المال وأجندة الضمّ الإسرائيلية. وفقاً لتحليل لينين، هذه هي مرحلة الإمبريالية في الرأسمالية: تتحوّل الدولة إلى أداة في يد رأس المال الاحتكاري، وتخدم السياسة الخارجية مصالح قلّة ثرية.
على أن الجانب الأخطر في تكريم ترامب لم يكن السياسات ذاتها، بل الطريقة التي صاغ بها سرديته، إذ وصف ضغوط شلدون بأنها «دعم»، وصمت مريام بأنه «رقة»، واعتبر نقل السفارة أو الاعتراف بالجولان من «أعظم ما حدث لإسرائيل».
هكذا يُخفى الاستعمار عبر مفردات الصداقة والولاء والكرم. يُقدَّم نهب الأرض وتجريد الشعوب الأصلية من حقوقها كأفعال نبيلة بين الحلفاء. وقد حذّر فانون في كتابه «معذّبو الأرض» من أن العنف الاستعماري يصاحبه دوماً «خطاب التحسين»، حيث يُعاد تأطير الغزو كحماية أو تقدّم. خطاب ترامب كان تطبيقاً مثالياً لهذا النمط.
المقاومة والمُساءلة نحو العدالة
بالنسبة إلى الفلسطينيين الذين يواجهون التهجير في الشيخ جرّاح، والسوريين المحرومين من سيادتهم في الجولان، والمحاصرين في غزة، لم يكن خطاب ترامب في الكنيست مادة هزلية، بل دليل إدانة. كشف أن سلبهم ليس نتيجة «نزاعات» مجردة، بل ثمرة صفقات بين المليارديرات والسياسة. وتترتب على ذلك دلالات عدّة منها:
أولاً: جعل الاحتلال سلعة سياسية، حيث تُعامل الأرض والسيادة كأوراق مقايضة مقابل تمويل الحملات والولاءات.
ثانياً: الضمّ كشرعية، بفضل سياسات موجّهة من المانحين، يكتسب الضمّ غلافاً من «الشرعية»، وكأنه نتيجة طبيعية للصداقة السياسية.
ثالثاً: المقاومة كضرورة تاريخية، إذ لم يسبق أن انهارت البنى الاستعمارية في الجزائر أو جنوب أفريقيا بكرم من الأعلى، بل بالمقاومة من الأسفل. وفي فلسطين تبقى المقاومة القوة الوحيدة القادرة على تحدّي تزاوج رأس المال والاستعمار.
ظنّ ترامب أنه يمدح مريام أدلسون، لكنه في الواقع كشف آلة الاحتلال: كيف تشكّل ثروات المليارديرات سياسات الدول، وكيف يُشترى الضمّ ويُباع، وكيف يستمر المشروع الاستعماري تحت رعاية رأس المال.
إن أوجه الشبه مع التاريخ صارخة. من الهند البريطانية إلى الكونغو، ومن الجزائر إلى نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، قادت الثروة الخاصة والمصالح التجارية التوسّع الاستعماري، ولم تكسره إلا المقاومة.
يؤكد خطاب ترامب أن فلسطين اليوم ليست استثناءً، بل حلقة في هذه السلسلة التاريخية نفسها: زواج الرأسمالية بالاستعمار، بتمويل من المليارديرات، وتنفيذ من الدول، ومواجهة من المقهورين.
ولمن يقاوم الاحتلال الإسرائيلي، فهذه ليست لحظة عابرة للسخرية، بل لحظة كاشفة تُسمّي العدوّ باسمه: نظام عالمي تُشرعن فيه الفتوحات عبر رأس المال، ولا يتحقّق التحرر إلا بمواجهة الدولة الاستعمارية والمصالح الرأسمالية التي تغذّيها.
تقرير للكاتب كريم حداد.