حرب الإبادة على جبهة الآثار

ishraq

الاشراق

الاشراق | متابعة.

بالتوازي مع حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الكيان الصهيوني الخرافي بحق الشعب الفلسطيني في غزة أمام أنظار العالم أجمع، تتوالى فصول إبادة واجتثاث التراث الفلسطيني العريق وبشكل لا يقل إجراماً عن التصفيات الجسدية للأطفال والنساء وعموم السكان الفلسطينيين، وباستعمال القنابل المدمرة نفسها أحياناً، أو بمشاريع آثارية استيطانية تشرف عليها المؤسسة الأركيولوجية الصهيونية الرسمية والجمعيات الموالية والمساعدة لها أحياناً أخرى.

جمعية إلعاد رأس الحربة
من هذه الجمعيات الصهيونية جمعية «إلعاد»، وهي مختصر لعبارة «نحو مدينة داود»، المتخصصة في تهويد الآثار الفلسطينية. أسّسها عام 1986 ضابط في القوات الخاصة المستعربة والمتخصصة بالاغتيالات «دوفدفان»، يدعى دافيد باري، وصار مديراً لها. المؤسف أن هذا المسلسل من التجاوزات وجرائم الحرب على هذه الجبهة يستمر حثيثاً في غياب تغطية إعلامية فلسطينية أو عربية إلا ما ندر، وبشكل لا يرقى إلى أهمية وخطورة الحدث، ولكنه يحظى باهتمام متزايد من الإعلام الأجنبي ومنه الغربي الأوروبي.

صحيفة «الغارديان» البريطانية نشرت أخيراً أكثر من تقرير في هذا الشأن. وقد حاول كُتابها أن يغطوا الأحداث على هذه الجبهة ولكن بلغة ملتبسة أحياناً، وتبريرية أحياناً أخرى، مع بعض الالتماعات المنصفة للتراث الفلسطيني وأهله يوجبها المنطق العلمي.

سنتوقف عند مثالين متوازنين من هذه التقارير التي نشرتها «الغارديان» أخيراً بالعرض والتحليل:
التقرير الأول، كتبه جوليان بورغر بتاريخ 25 من شهر أيلول 2025، بعنوان «رؤية النفق: كيف تستخدم إسرائيل علم الآثار لكسب دعم الولايات المتحدة لتحقيق أهدافها». وهو مخصص لتغطية الاحتفالية التي أقامها نتنياهو بمناسبة افتتاح نفق تحت حي سلوان بالمدينة المحتلة، وأطلقوا عليه اسم «نفق حشمونائيم»، وسوف نتوقف لاحقاً عند عبثية هذا الاسم ولا علميته.

شبكة أنفاق تحت الأقصى
تحت أرضية المسجد الأقصى، ثمة شبكة أنفاق وليس نفقاً واحداً:
أولها، يمتد لمسافة 500 متر وبعمق ستة إلى سبعة أمتار من جهة الشرق، انطلاقاً من باب السلسلة شرقاً حتى درب الآلام الذي أجبر الرومان يسوع المسيح على السير فيه حاملاً صليبه كما تقول الرواية الإنجيلية.
والثاني، هو نفق الجسر الكبير السفلي، وطوله 150 متراً وبعمق 15 متراً وعلى مسافة ليست بعيدة من أساسات قبة الصخرة.
والثالث، نفق سلوان، ويسميه الصهاينة «نفق جفعاتي»، ويمتد من حي سلوان حتى مخرجه قرب القصور الأموية وباب المغاربة.

هناك أيضاً عدة أنفاق مغلقة، يُمنع الدخول إليها، ومنها نفق قرب حي القرمي في البلدة القديمة، ونفق قرب باب العمود، وثالث قرب باب الساهرة. ويعتبر حفر هذه الأنفاق طريقة تدميرية أكثر فاعلية تهدف إلى تهشيم أرضية الأقصى وقبة الصخرة وجعل انهيارهما مسألة وقت لا أكثر.

احتفالية نتنياهو الجديدة بافتتاح نفق سلوان جرت بحضور وزير الخارجية الأميركي روبيو والسفير القس هاكابي. وهو الافتتاح المكرر الثالث وليس الأول؛ إذ إن حكومة الليكود برئاسة نتنياهو ذاته، وقبل هذا التأريخ بعقدين تقريباً، نظمت احتفالية أولى بمناسبة بدء الحفر عام 1996.

أدّى هذا العمل الاستفزازي آنذاك إلى اندلاع انتفاضة شعبية فلسطينية كبيرة عرفت بـ«هبّة النفق». ارتقى فيها مئة شهيد وأصيب 1600 آخرون بجروح. وقد كشفت جمعية «أميك شافيه» (عمق شبيه) الإسرائيلية المستقلة والمهتمة بآثار فلسطين التاريخية كلها، وذات الموقف النقدي من سلطات الاحتلال ونشاطاتها الاستيطانية، كشفت الطابع التضليلي السياسي لهذه الاحتفالية الجديدة، وقالت إنها أُقيمت لأغراض الإعلام والدعاية الحزبية والدينية.

وأكدت الجمعية على لسان رئيسها عالم الآثار المعروف ألون أراد، أنّ هذه ليست المرة الأولى التي يقيم فيها نتنياهو احتفالية لافتتاح النفق بل سبق وأقام واحدة أخرى عام 2019 خلال الولاية الأولى لترامب، وشارك فيها آنذاك أول سفير له في الكيان ديفيد فريدمان الذي منحه نتنياهو شرف هدم جدار قديم بمطرقة ثقيلة.

لم تخلُ احتفالية نتنياهو الأخيرة والمكررة من المبالغات والاستفزازات الطائفية الساذجة من بعض المحتفلين؛ ففي تقريره المنشور في «الغارديان» يخبرنا بورغر بأن روبيو وصف النفق بأنه «ربما يكون أحد أهم المواقع الأثرية على وجه الأرض»! علماً أن النفق الذي حفرته حكومة الاحتلال يمتد على طول طريق يعود إلى العهد الروماني ويدعونه «طريق الحج»، يعود بدوره إلى زمن متأخر نسبياً، ولا علاقة له بما يسميه نتنياهو «يهودية أورشليم» في التواريخ التوراتية القديمة وغير الموثوقة علمياً وتأريخياً.

ويضيف تقرير «الغارديان» أن الأمم المتحدة كانت قد أعلنت بوضوح أنّ «هذا المشروع غير قانوني لأنه بُني على أرضٍ محتلة كجزء من جهدٍ أوسع لتهجير الفلسطينيين، وقد شجبت لجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة العام الماضي استخدام الآثار لأغراضٍ سياسية». ولكن إسرائيل دولة مارقة وفوق القانون فلم تكترث إلى بيانات الأمم المتحدة وقراراتها.

إنّ النفق الذي افتُتح قبل أيام ليس جديداً، بل هو جزء من شبكة أنفاق تحفرها إسرائيل منذ عقود كما يقول الباحث في الآثار الفلسطينية الدكتور عبد الرازق متاني. أشار متاني إلى أن افتتاحه تزامن مع انعقاد القمة العربية الإسلامية في الدوحة، «ما يعني أن التوقيت كان رسالة سياسية واضحة من نتنياهو والإدارة الأميركية، مفادها أن جوهر الصراع يتمحور حول القدس، وأنه يمتلك السيادة عليها وعلى المسجد الأقصى على حد زعمه».

الآثاري ألون أراد أضاف، كما تنقل «الغارديان»، أن «هذا المهرجان برمته غريبٌ تماماً. والحقيقة هي أن المستوطنين والإنجيليين وغيرهم من الأميركيين اليمينيين وجدوا بعضهم البعض متوافقين تماماً ليست جديدة. لكن هذا الاحتفال ليس سوى علم آثار سيّئ ودليل آخر على أن مشروع حديقة مدينة داود الأثرية برمته لا علاقة له بالآثار أو التراث». وعمّا يسمّى «طريق الحج اليهودي»، قال أراد: «إنّ هذا الترويج لمسار الحج هو محاولة لتهويد تراث هذه المنطقة بأكمله».

طريق الحج... أي حج؟
معروف للمتخصصين في الميثولوجيا الإبراهيمية عدم وجود الحج كفريضة دينية ملزِمة في اليهودية ولا في المسيحية، بل هي بمنزلة زيارات خلال ثلاثة أعياد دينية يهودية هي؛ الفصح (البيساح) وعيد الأسابيع (الشفوعوت) وعيد المظال (السوكت). يقوم بها المؤمنون الذكور البالغون حصراً إلى حائط البراق الذي يسميه اليهود «حائط المبكى». سُجلت إشارات إلى وجود هذا «الحج/الزيارات» في عصور متأخرة قد لا تزيد على أواخر العهد العثماني، وليس ثمة أي دليل رصين يؤكد خلاف ذلك. ومن هذا القبيل ثمة حج محلي آخر لليهود الشرقيين/ المزراحيم في تونس يقومون فيه بزيارة معبد لهم في جزيرة جربة حتى يومنا هذا.

وفي المقابل، هناك مَن ينسب طريق الحج إلى الحجيج المسيحي الأقدم تأريخياً وليس اليهودي في القرنين الخامس والسادس الميلاديين. إذْ تقول مصادر تاريخية رومانية، بتأكيد من مصدر إسرائيلي معاصر، إنَّ الإمبراطورة يودوكيا، الزوجة المنفصلة عن الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني (401 – 450م)، هي التي أمرت وتكفلت بشق هذا الطريق للحجاج المسيحيين. وقد وردت هذه المعلومة استطراداً في بيان لمؤسسة الآثار الإسرائيلية الرسمية عام 2008، بمناسبة ما زعموا أنه «اكتشاف السور الجنوبي لمدينة القدس من فترة الحشمونائيم».

ولكن هذه المؤسسة لم تذكر أي لقية أو دليل مادي ملموس من تلك المدة على «حشمونائية» السور مثلما ذكرت أدلة مضحكة من قبيل «بقايا أثرية أحدث في الموقع كزجاجات من النبيذ والبيرة والأحذية التي تركها أعضاء بعثة بحث بريطانية قامت بالتنقيب في الموقع في نهاية القرن التاسع عشر» (بيان على صفحة «عليم ساينس» بتاريخ 4 أيلول 2008)!

أمّا نسبة أحد الأنفاق إلى الحشمونيين، فهي تلفيقة أخرى من تلفيقات نتنياهو وبعض الآثاريين الصهاينة. فأولاً، لا علاقة للحشمونيين بالموضوع. والحشمونيون فئة يهودية تمردت على حكم الاحتلال السلوقي وبعده على الروماني بين عامَي 140 و37 ق.م، أي إنه لا يُعد قديماً وذا قيمة كبيرة في التاريخ الفلسطيني الألفي لمحدوديته الجغرافية والتأريخية. وقد انحصر التمرد الحشموني في ضواحي أورشليم القدس، وسيطرت لفترات على المدنية.

الطريف والذي ربما يجهله نتنياهو وضيوفه أن السِّفر الوحيد الذي يذكر تمرّد وحكم الحشمونيين بكثير من المبالغات هما سِفرا الميكابيين الأول والثاني -إضافة إلى ما ذكره المؤرخ اليهودي فلافيوس وهو من أهل القرن الأول الميلادي- وهما سِفران لا يعترف بهما معظم الإنجيليين البروتستانتيين ويعتبرونهما سفرين ملفقين في التوراة. فهل يعلم السفير الأميركي والقس البروتستانتي المتحمس لمشاريع نتنياهو، هاكابي، بهذه المعلومة؟!

جريمة حرب أخرى

لقد تزامنت احتفالية نفق سلوان، وبحضور روبيو وهاكابي، مع إقدام جيش الاحتلال - كما يقول آلون - على قصف المخزن الأثري في مدينة غزة بالصواريخ من الجو. لقد دمرت إسرائيل بصواريخها الأميركية ثمار جهود الآثاريين الفلسطينيين والأجانب، ومنهم فرنسيون، لأكثر من ثلاثين عاماً، إذ تم تحطيم آلاف القطع الآثرية النادرة وتضرر قسم آخر منها كانت في مستودع للآثار.

قيادة جيش الاحتلال برّرت فعلتها بأنها منحت علماء الآثار الفلسطينيين والمركز الفرنسي لدراسة الكتاب المقدس والآثار في القدس (EBAF)، التي تدعم الموقع، ثلاثة أيام لإفراغ المستودع قبل قصفه، ولكن لم يكن هناك سوى وقت محدود لنقل بعض القطع الأثرية في قافلة شاحنات واحدة وفي ظل صعوبات جمة في النقل والتحميل خلال ظروف الحرب.

وقد صرّح مسؤول في المركز الفرنسي كما تخبرنا «الغارديان» قائلاً: «لم نتمكن من العودة في مهمة ثانية بسبب نقص الشاحنات وقلة الأشخاص، وخاصةً بسبب الخطر، فَفُقدت بعض القطع الأثرية». ويضيف التقرير: «استولت القوات الإسرائيلية على المستودع في هجوم شنته مطلع العام الماضي، في انتهاك للقانون الدولي. كما إن بعض القطع الأثرية التي تمكّن علماء الآثار من إخراجها من المستودع قبل القصف تحطمت أثناء نقلها في شاحنات مفتوحة، وهو النوع الوحيد الذي يسمح به الاحتلال. وهي الآن في مكان غير معلوم، معرضة لعوامل الطبيعة».

وفي محاولة لاجتثاث أي ذكر لفلسطين والتراث الفلسطيني قالت قيادة الجيش الصهيوني إنها «سهّلت مهمة إنقاذ ونقل قطع أثرية نادرة تعود للمجتمع المسيحي في غزة». والواقع أن تلك الكنوز الأثرية التي دمرها سلاح الجو الإسرائيلي لا تعود «للمجتمع المسيحي في غزة»، ولا للعهد الميلادي فقط، كما يقول ألون أراد الذي وصف عبارة «المجتمع المسيحي في غزة» بأنه «وصف غريب»، وأضاف أنها «تعود إلى عصور متعددة، وترتبط بحضارات وأديان متعددة، ولا يسعني إلا أن أفترض أن ذلك يعود إلى استمرار إسرائيل في محاولة الحفاظ على علاقاتها الخارجية مع الكنيسة الإنجيلية المسيحية في الولايات المتحدة».

دير القديس الفلسطيني هيلاريون
إنه موقع أثرى يقع وسط قطاع غزة في موقع يطلق عليه «خربة أم عامر» أو «أم التوت»، وهو الدير الأثري الوحيد في فلسطين الذي يرجع تاريخه إلى ما قبل 17 قرناً من الزمن. بُنيَ الدير حوالى عام 340 م على يد الناسك الفلسطيني هيلاريون (291-371 م)، وهو من سكان إقليم غزة - قرية أم التوت جنوباً، وأحد الآباء المحتملين للرهبنة الفلسطينية. وقد اكتُشف الدير من قبل قوات الاحتلال بالمصادفة عام 1993 وتم تحويله إلى منطقة عسكرية مباشرة.

ومع قدوم السلطة الفلسطينية إلى غزة عام 1994 بدأ العمل في موقع الدير من قبل خبراء آثار فلسطينيين رفقة خبراء فرنسيين من المركز سالف الذكر. ومع تفاقم حرب الإبادة المستمر ضد الشعب الفلسطيني وتدمير مدن القطاع بوحشية وخوفاً على ما تبقى من الدير بعد قصفه من قبل طيران العدو في تشرين الثاني 2023، وضعت «اليونسكو» الدير تحت «حماية مؤقتة معززة» في كانون الأول 2023.

وهذه الحماية هي أعلى درجة من الحماية من الهجمات المنصوص عليها في اتفاقيات لاهاي عام 1954. وكان هذا الدير هو واحد من 195 موقعاً للتراث الثقافي تضررت أو دمرت منذ بدء حرب غزة ضمنها موقع تل العجول الشديد الأهمية الذي يمثل تاريخ غزة في العصر البرونزي الوسيط والمتأخر (1800 ق.م)، كما استهدف جيش الاحتلال موقع البلاخية الذي يمثل ميناء غزة القديم (أنثيدون) في الفترتين اليونانية والرومانية. إنها، باختصار، حرب اجتثاث واستئصال للتراث والثقافة الفلسطينية القديمة التي ترعب الصهاينة الأشكناز الذين لا ماضي لهم في فلسطين كلها وعلى مرِّ العصور.

في تموز 2024، تم إدراج دير هيلاريون على قائمة التراث العالمي المعرّض للخطر من قبل «اليونسكو». وقد تم تسريع عملية إدراج الموقع على القائمة باستخدام إجراءات الطوارئ، إذ أعربت «اليونسكو» عن «قلقها العميق إزاء تأثير الصراع المستمر على التراث الثقافي، وخاصة في قطاع غزة».

فى 26 تموز 2024، وبطلب من الوفد الفلسطيني لدى «اليونسكو»، وضعت منظمة «اليونسكو» دير القديس هيلاريون فى قطاع غزة على قائمة التراث العالمي المعرض للخطر، وبعد أن تحوّل الدير إلى أطلال في معظمه، لاحق طيران العدو مستوع الآثار بغزة، وفي يوم افتتاح نفق سلوان في القدس، دمّر قسماً كبيراً من محتويات المستودع وألحق الضرر بقسم آخر نجا من التدمير الكلي.

في تقرير «الغارديان» الثاني حول الدير والذي نُشر بتاريخ 11 أيلول 2025، تنقل الصحيفة البريطانية عن بوكيلون، مدير المدرسة الفرنسية للكتاب المقدس، التي تضم الآثار، قوله: «كانت هذه عملية عالية المخاطر، نُفذت في سياق بالغ الخطورة على جميع المعنيين - عملية إنقاذ حقيقية في اللحظة الأخيرة».

وتنقل «الغارديان» عن رينيه إلتر، عالم آثار فرنسي آخر شهد الحدث، ما يوضح حجم المأساة والجريمة الإسرائيلية بحق التراث والآثار الفلسطينية بقوله: «كان المستودع ذا قيمة خاصة لأن المجموعات كانت مصنفة بشكل منهجي. لقد كُسرت أو فُقد عدد من القطع، ولكن تم تصويرها أو رسمها، وبالتالي فإن المعلومات العلمية محفوظة ولعل هذا سيكون هو الأثر الوحيد المتبقي من آثار غزة في الكتب والمنشورات والمكتبات».

علاء اللامي - كاتب عراقي

لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء والتوصيفات المذكورة.

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP