مشروع الجولاني..شرعية مصطنعة وهوية مهددة بالانقراض

ishraq

الاشراق

الاشراق | متابعة.

في بقعةٍ كلّ ما فيها مفعمٌ برائحة البارود وأصوات نحيب الأرض، تقف سوريا اليوم على أعتاب كارثة جديدة، لا يبدو أنها ستكون الأخيرة في كتاب مآسيها الطويل. إنها مأساة تجنيس المتطرفين الأجانب وإعادة تشكيل هوية وطن، في مشروع تقوده يدٌ عابثة من داخل جحيم الوطن: يد أبو محمد الجولاني، قائد "هيئة تحرير الشام".  
هذا المشروع المروّع، الذي يضع آلاف الإرهابيين الأجانب في موقع "المنتمين" لوطن لا يشبههم، أقرب ما يكون كابوساً يتكرر بلا توقف. ليس لأن الغرباء أصبحوا جزءاً من آلة الحرب فحسب، بل لأنهم على وشك أن يتحوّلوا إلى جزء من روح الوطن، من نسيجه، من تلك الخارطة التي تئن من الفرقة والتمزق.

من مقاتلين مرتزقة إلى "مواطنين شرعيين”
الجولاني، الرجل الذي اختزل سوريا بجدرانٍ من التطرف، لم يعد يكتفي بأصوات البنادق التي ملأت سماءها. بل قرر أن يخترق الأرض أكثر عمقاً، ليزرع فيها ماضياً من الكراهية ومستقبلاً من الانهيار. المقاتلون الأجانب الذين جاؤوا أعداء ومرتزقة يطمح الجولاني اليوم إلى تحويلهم إلى "مواطنين". خطوة أشد إيلاماً من القتال ذاته، لأنها تطعن في روح سوريا ببطء، وتُعلن انتزاع السوري من جذوره لصالح هويات وافدة غريبة.

تصنع هذه الهويات على عجلٍ من خلال زيجات قسرية بغطاء “شرعي” لربط الغرباء بالنسيج العائلي المحلي. فتُكتب عقود فوق الطاولة، يرهبها سلاحٌ من تحتها .إضافة إلى بطاقات تعريف خاصة تمنح صفة “المقيم الشرعي”، بوابة إلى الإقامة والتملّك والحقوق المكتسبة، ما يعطيهم كرت دخول دائم إلى مجتمع لم يصوّت لهم.

اقتصاد ولاءاتٍ؛ هو الأخر شكلٌ من صناعة هويةٍ تمنح من ينصاع من هؤلاء المتطرفين امتيازات للعمل والخدمات، بينما يتم تهميش ممنهج لمن يعارض. ما يصنع مجتمعاً يُعاد تشكيله على مقياس الطاعة لا الكفاءة. طاعةٌ مدعومة بسردية جاهزة مفادها: “هذا واقع لا يمكن تغييره”. عبارةٌ سحرية تُخرس الأسئلة جبراً ولكنها تفتح الأبواب قهراً

لا يمكن تخيل حجم المأساة التي تحل على الشعب السوري المتعب، حين يرى وجوه الغرباء وهي تُحوَّل إلى مواطنين "شرعيين". هؤلاء ليسوا أبناء هذه الأرض، بل أصحاب رايات سوداء نُسجت من دماء السوريين وآلامهم. ومع هذا، تُحاول السلطات التي نصّبها الجولاني تزييف صورة الوطن ليصبح هؤلاء "شركاء" بقوة السلاح والتدمير فيعملية تهدف إلى خلق واقع ديموغرافي مستدام يتخطى حدود الحاضر. عملية تشكّل معادلة خطيرة: قوات أجنبية يتم إعادة تشكيلها لتصبح "شرعية"، فيما يتم تهميش السكان الأصليين وتحويلهم إلى مواطنين من الدرجة الثانية إن لم ينصاعوا لسياسات الهيئة.

قنبلة ديموغرافية موقوتة

منذ أن حاول أبو محمد الجولاني ومن وراءه إيهام البعض أنه تخلّص من عباءة "القاعدة" ساعياً لتقديم نفسه بوجه جديد، لم يعد الهدف مجرد السيطرة على الأرض أو فرض النفوذ العسكري، بل بناء صورة "الزعيم السياسي المحلي" القادر على إدارة كيان مستقل في سوريا. ولتحقيق هذا الوهم، لجأ إلى أخطر أوراقه: منح الجنسية للمقاتلين الأجانب وتحويلهم من "غرباء عابرين" إلى "مواطنين دائمين".

هذه الخطوة ليست مجرد إجراء إداري، بل مشروع كامل لإعادة تشكيل الواقع السوري بما يخدم بقاء الجولاني وسلطته. فبتجنيس هؤلاء، يضمن الجولاني لنفسه قاعدة سكانية بديلة تلتف حوله وتدين له بالولاء الشخصي، بعيداً عن الولاء للأرض أو الوطن. وبذلك، يزرع "شعباً جديداً" داخل سوريا، ويفرض واقعاً ديموغرافياً يجعل أي حكومة مستقبلية في دمشق عاجزة عن التخلص من هؤلاء "المواطنين الجدد" دون إشعال صراعات أهلية دامية. أكثر من ذلك، يسعى الجولاني ومن خلفه أن يحوّل المتطرفين المجنَّسين إلى ورقة ضغط على المجتمع الدولي، ليقول للعالم: "هؤلاء لم يعودوا إرهابيين غرباء، بل مواطنون سوريون، وبالتالي لا يمكن ترحيلهم أو المطالبة بمحاسبتهم.


لكن هذه اللعبة التي يظنها الجولاني طريقاً نحو الشرعية، ليست سوى مسار انتحاري يقود مستقبلاً إلى العزلة الدولية. فالعواصم الغربية والإقليمية، التي تراقب بقلق عودة داعش والقاعدة بأشكال مختلفة، لن تنخدع بمسرحية "التجنيس". بل سترى في خطوته هذه محاولة مكشوفة لتحويل سوريا إلى ملاذ شرعي للإرهاب العابر للحدود، يهدد أمن المنطقة والعالم.

الأخطر من البعد السياسي هو ما يمسّ هوية سوريا نفسها. فبلد عُرف على مدى آلاف السنين بتعدديته الدينية والثقافية، يواجه اليوم أخطر تهديد لهويته الجامعة. إدخال آلاف المقاتلين الأجانب بعقائد متشددة لا يرى أصحابها في المختلف سوى "عدو يجب تصفيته"، يعني تفجير النسيج الاجتماعي من الداخل. كيف يمكن لمدن عريقة كدمشق أو حلب أن تحافظ على طابعها التاريخي إذا غُرست فيها مجتمعات هجينة تفرض ثقافة الغريب وسلوكه بالقوة؟

هنا تكمن الكارثة الكبرى: الجنسية، التي يفترض أن تكون عقد ولاء للأرض والشعب والتاريخ، تتحول على يد الجولاني إلى مجرد أداة لتشريع وجود الغرباء وتثبيتهم كأمر واقع. وما يُسوّق على أنه "إدماج" ليس إلا عملية تدنيس للهوية الوطنية، ومسخ لمعنى الانتماء. إنها ليست قضية أوراق ثبوتية فحسب، بل مجزرة باردة للهوية السورية، تُنفَّذ بلا قصف ولا رصاص، ولكن بآثار مدمرة تمتد لعقود قادمة، وتزرع بذور صراعات لا تنتهي بين "السوري الأصيل" و"المواطن المصطنع".

بكلمات أخرى، مشروع التجنيس ليس فقط رصاصة في قلب السياسة السورية، بل سكين في عنق الهوية الوطنية، يقطع شرايينها ببطء تحت شعارات كاذبة عن "الشرعية" و"الاستقرار".

من التجنيس إلى الكارثة
من يعتقد أن إدماج المقاتل الأجنبي عبر التجنيس أو الزواج أو التوطين القسري يمكن أن يكون حلاً مرحلياً، عليه أن يعود قليلاً إلى التاريخ القريب ليدرك أن هذه الوصفة لا تنتج استقراراً، بل تُخفي بذور كارثة أكبر. فالتجارب المماثلة في بلدان شهدت حروباً دامية أثبتت أن المتطرف حين يتحوّل فجأة إلى “مواطن”، لا يذوب في المجتمع الجديد كما يتوهّم البعض، بل يُعيد تشكيله وفق قناعاته، ويفرض عليه ثقافته وسلوكه، ويزرع فيه خطوط انقسام يصعب محوها.

في أفغانستان الثمانينيات، بقي “الأفغان العرب” بعد انسحاب الجيش السوفييتي، بعضهم تزوج محلياً وبعضهم وجد ملاذاً دائماً في الجبال والقرى. لم ينصهروا في المجتمع كما كان يُنتظر، بل كوّنوا شبكة أيديولوجية مسلّحة كانت النواة الصلبة لتنظيم القاعدة. وما لبثت هذه الشبكة أن تجاوزت حدود أفغانستان، لتتحول إلى ماكينة عنف عابرة للقارات، صدّرت الإرهاب إلى كل بقاع العالم على مدى عقود. تجربة أفغانستان تؤكد أن الدمج لم يكن حلاً، بل بداية مأساة عالمية.

في العراق بعد عام 2014، أعاد تنظيم داعش إنتاج نفس السيناريو لكن بلمسة أكثر قسوة. فقد عمل على تزويج مقاتليه الأجانب بنساء محليات، وزّع وثائق داخلية بديلاً عن الجنسية، وفرض واقعاً سكانياً جديداً في الموصل ومناطق أخرى. وحتى بعد تحرير المدن عسكرياً، لم يختفِ الأثر: أطفال وُلدوا في ظل “خلافة” غير معترف بها، أنساب متنازع عليها، زيجات قسرية خلّفت جراحاً اجتماعية عميقة. المجتمع العراقي لم يستطع حتى اليوم أن يتجاوز هذا الإرث؛ فالمعركة الحقيقية لم تكن فقط ضد داعش، بل ضد نتائجه السامة التي ظلت حية في النسيج الاجتماعي.

أما في البوسنة والهرسك، فقد كانت المأساة مختلفة الشكل، لكنها متشابهة في الجوهر. فبعد انتهاء الحرب في التسعينيات، حصل عدد من المقاتلين الأجانب على جنسيات بوسنية عبر ثغرات قانونية أو بزواج من محليات. وبمرور الوقت، اندمج هؤلاء ظاهرياً في المجتمع، لكن بعضهم تحول لاحقاً إلى خلايا نائمة استُخدمت في تنفيذ عمليات إرهابية في قلب أوروبا. ما بدا وقتها خطوة “إنسانية” لاستيعاب مقاتلين عالقين في أرض بعيدة، أثبت لاحقاً أنه خطأ استراتيجي دفع ثمنه الأمن الأوروبي نفسه.

الخيط الناظم بين هذه التجارب جميعاً واضح: التجنيس أو الدمج القسري للمقاتلين الأجانب لا ينهي الأزمة، بل يؤسس لجولة أعنف من العنف، جولة تتخفى وراء أوراق ثبوتية وقرارات سياسية، لكنها تضرب في عمق المجتمع وتفكك هويته الوطنية. وإذا كان هذا هو حال دول تملك دعماً دولياً ومؤسسات قادرة على التعافي جزئياً، فكيف سيكون الحال في سوريا الممزقة، ذات البنية الاجتماعية الهشة والانقسامات العميقة أصلاً؟ هنا يصبح السيناريو أكثر كارثية، حيث قد يتحول التجنيس إلى قنبلة موقوتة، لا تهدد سوريا وحدها، بل المنطقة بأكملها.

انعكاسات إقليمية ودولية
المسألة لا تقف عند حدود سوريا ولا يمكن النظر إليها كإشكال داخلي فحسب. تجنيس المقاتلين الأجانب وتحويلهم إلى "مواطنين سوريين" سيخلق واقعة غير مسبوقة في المنطقة: جماعات متشددة تحمل أوراقاً رسمية، وتستند إلى شرعية شكلية تجعل مواجهتها قانونياً وسياسياً أكثر تعقيداً. هذه الخطوة ستجعل من سوريا نقطة جذب دائمة لكل من يبحث عن ملاذ آمن، ليس كلاجئ أو مقاتل عابر، بل كمواطن جديد له حقوق وامتيازات يمكن استغلالها في تثبيت وجوده. وهنا تكمن الخطورة الكبرى: فبدلاً من أن تكون سوريا ساحة حرب محدودة زمنياً، قد تتحول إلى كيان دائم يشرعن التطرف ويؤطره في مؤسسات تبدو "قانونية".

إقليمياً، سيكون لهذا التحول أثر مدوٍّ. تركيا، التي تواجه أصلاً تحديات أمنية معقدة على حدودها الجنوبية، ستجد نفسها أمام شريط حدودي مكتظ بمسلحين يحملون أوراقاً سورية رسمية، ما يفتح الباب أمام تسلل أمني يصعب احتواؤه. الأمر ذاته ينطبق على الأردن ولبنان، اللذين يعيشان أصلاً تحت ضغط اللاجئين، إذ قد تتدفق موجات جديدة من النازحين، لكن هذه المرة مشبعة بأفكار متطرفة ومؤدلجة، ما يضع المجتمعات المضيفة أمام تحديات اجتماعية وأمنية قاسية. أما العراق، الذي لا يزال يلهث خلف استعادة تماسكه بعد دمار داعش، فقد يواجه تجديداً لسيناريو التسعينيات والألفية الجديدة، عبر تسلل خلايا تحمل "هوية شرعية" تعقد مهمة تعقبها واستئصالها.

على المستوى الدولي، لن يكون من السهل على القوى الكبرى تجاهل هذا الواقع. أوروبا، التي تعاني أصلاً من هواجس الهجرة غير الشرعية والذئاب المنفردة، ستجد نفسها أمام تهديد أكثر خطورة: إرهابيون يحملون جوازات سورية "قانونية"، قد يطالبون بحقوق لجوء أو تنقل بحجة أنهم مواطنون في دولة معترف بها دولياً. الولايات المتحدة بدورها ستجد صعوبة في تبرير أي تقاعس أمام مشروع يمنح الإرهابيين غطاءً قانونياً يعقد عمليات الاستهداف والمحاسبة.

الأخطر من ذلك أن سوريا قد تتحول إلى ما يشبه "المعادلة الصومالية" ولكن على نطاق أوسع وأخطر: دولة ممزقة، تسيطر عليها سلطات أمر واقع، تستضيف جماعات متشددة تملك اعترافاً ضمنياً بفضل أوراق الجنسية. في هذه الحالة، لن يبقى الخطر محصوراً في الشرق الأوسط، بل سيمتد بالضرورة إلى العواصم الغربية، حيث تصبح عودة الهجمات مسألة وقت لا أكثر. عندها لن يكون مشروع الجولاني مجرد تهديد للهوية السورية أو استقرار الإقليم، بل تهديداً مباشراً للأمن الدولي برمته.

بقلم: أحمد علي إبراهيم - صحفي ومحلل سياسي سوري

لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء والتوصيفات الواردة في التقرير

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP