01/08/2024
دولي 118 قراءة
كيف يمكن كسر استراتيجية "الجنون المطلق" الإسرائيلية؟

الاشراق
الاشراق | متابعة.
في ليل 30 - 31 تموز/يوليو اغتالت إسرائيل اثنين من كبار مسؤولي محور المقاومة، هما الأرفع رتبة بين من استشهدوا خلال هذه الجولة من الصراع.
القائد العسكري في حزب الله فؤاد شكر استشهد في غارة لسلاح الجو الإسرائيلي على مبنى سكني في الضاحية الجنوبية ذات الكثافة السكانية العالية جنوب بيروت، وقضى معه عدة مدنيين وأصيب أكثر من 70 آخرين.
وكان الهدف الثاني رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، في طهران التي كان يزورها لحضور حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان.
في غضون ساعات قليلة، تمكّنت إسرائيل من ضرب ثلاث من دول محور المقاومة، لبنان وفلسطين وإيران. وبذلك، انتهكت تل أبيب مجموعة كاملة من القوانين الدولية والاتفاقيات الدبلوماسية والممارسات العرفية التي تحظر الاغتيالات السياسية، كما انتهكت بشكل صارخ السلامة الإقليمية لدولتين عضوين في الأمم المتحدة.
منذ حربها على غزة، اكتسبت إسرائيل بسرعة وضعية الدولة المنبوذة عالميًا، ليس فقط بسبب الإبادة الجماعية التي نُفّذت على الهواء مباشرة وأودت بحياة ما لا يقل عن 40,000 مدني فلسطيني، من بينهم 15 ألف طفل، ولكن أيضًا بسبب الأحكام غير المسبوقة والمداولات التي لا تزال جارية في المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية بشأن جرائمها ضد الإنسانية.
لذا، تثير تصرّفات تل أبيب الاستفزازية الليلة الماضية كثيرًا من الأسئلة: هل أصاب إسرائيل مسّ من الجنون؟ ألا تدرك الاستنكار العالمي المتزايد، وتوسّع حملات المقاطعة، وتقلّص تحالفاتها، والغضب على وسائل التواصل الاجتماعي، وعزلتها المتزايدة؟
إسرائيل والجنون المطلق
الإجابة البسيطة هي أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة كانت عقلانية تمامًا. إذ أدرك المشروع الصهيوني، منذ البداية، نقاط ضعفه الجغرافية والديمغرافية والسياسية والاقتصادية، وطبّق، بطريقة محسوبة للغاية، "استراتيجية التدمير المتبادل" أو "استراتيجية الجنون المطلق" (MAD) لتحقيق أهداف تتجاوز وزنه الجيوسياسي.
تنبع هذه الاستراتيجية الغريبة ولكن الفعّالة من نظرية الردع التقليدية، وتقوم على فكرة أن "تثبيت وجود مهدّد للآخرين مع سمعة عدوانية ولمسة من الجنون يمنع أعداءك من مهاجمتك. لن يهاجموا شخصًا يأخذ عدوه معه إذا سقط".
هذا هو جوهر استراتيجية إسرائيل مع الأصدقاء والأعداء على حد سواء، وعندما يتم فهمها فإنك ستراها بشكل واضح في جميع تصرفاتها وأفعالها.
بعد العملية العسكرية التي نفّذتها المقاومة الفلسطينية في 7 تشرين الأول/أكتوبر، وفيما كان الرئيس الأميركي جو بايدن في طريقه إلى تل أبيب لتقديم الدعم لإسرائيل، ضرب جيش الاحتلال مستشفى الشفاء وقتل مئات المدنيين. لم يكن من قبيل الصدفة. فقد سعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عمدًا إلى هذه المشهدية. وهو أراد أن يدفع الرئيس الأميركي إلى إظهار الدعم لسياساته، بغضّ النظر عن الفظائع التي يرتكبها.
وهذه استراتيجية قديمة تُستخدم لترويض الأطراف المقابلة على تقبّل سلوك إسرائيل السيئ.
وقد لعب نتنياهو هذه اللعبة الخطيرة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال الحرب السورية. فبعد كل اجتماع مع رئيس الدولة الروسية القوي، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي يوجّه ضربات قاسية ضد سوريا، ومرة أخرى، لترويض الروس وإعدادهم لتقبل السلوك الإسرائيلي السيئ وتوقعه.
ليس صحيحًا أن تل أبيب تتصرّف بطريقة غير عقلانية. بل إن تطبيق استراتيجية الجنون المطلق قرار عقلاني للغاية بالنسبة لكيان صغير يحتاج إلى فرض إرادته المتضخمة ليس على جيرانه فحسب، بل على القوى العالمية والمؤسسات الدولية أيضاً.
الجنون المطلق قبل 1948
وليست هذه استراتيجية إسرائيلية جديدة، بل تعود بداياتها إلى ما قبل تأسيس الدولة، عندما هاجمت الميليشيات الصهيونية القوات البريطانية التي سهّلت هجرة اليهود إلى فلسطين، وشنّت عمليات عسكرية لتطهير عرقي للسكان الأصليين.
أسّست إسرائيل "وجودًا هجوميًا مهددًا" منذ تأسيسها. إذ نفّذت الميليشيات اليهودية أعمالًا إرهابية، من بينها اغتيال دبلوماسيين بريطانيين في القاهرة عام 1944، وتفجير فندق الملك داود في القدس عام 1946، وارتكاب مذبحة دير ياسين عام 1947، ثم النكبة الفلسطينية عام 1948.
وبدلًا من معاقبتهم على هذه الجرائم، كوفئ الصهاينة بتصويت في الأمم المتحدة أضفى الطابع الرسمي على دولة إسرائيل عام 1947. حصد هذا السلوك السيئ فوائد غير عادية، فلماذا إذن التخلي عن هذه الاستراتيجية؟
معظم العصابات الإرهابية الصهيونية آنذاك شكّلت لاحقًا الجيش الإسرائيلي. السياسي الذي أمر بتنفيذ سياسة التطهير العرقي ضد الفلسطينيين أصبح يُعرف بـ "أبو إسرائيل" وصار أول رئيس وزراء للدولة. وارتقى قادة العصابات الآخرون إلى هذا المنصب بسرعة، مثل مناحيم بيغن، وإسحاق رابين، وإسحاق شامير، وحصل بعضهم على جوائز نوبل للسلام. ومرة أخرى، أثبت السلوك السيئ أنه مجدٍ.
بعد إنشاء إسرائيل، عادت سلسلة من الحروب الناجحة ضد الجيران العرب في 1956 و1967 و1973 و1982 عليها بمكاسب إضافية، بما في ذلك السيطرة على أراضٍ جديدة، وتوسيع المستوطنات، وزيادة حجمها على الساحة الدولية. وأطلقت سلسلة متتالية من الاعتداءات العسكرية والاستخباراتية على منطقة تمتد على مساحة تزيد 250 مرة عن حجمها، شملت لبنان وسوريا والعراق وإيران والأردن والإمارات وتونس ومصر وأوغندا.
كل هذا لم يكن ممكنًا إلا من خلال دعم دبلوماسي واقتصادي وعسكري وإعلامي تام من الغرب الذي بذل جهدًا كبيرًا لتغطية استفزازات إسرائيل غير القانونية، وبدلًا من ذلك أعاد توجيه السردية إلى جهود إسرائيل في عملية السلام، و"ديمقراطيتها"، وجيشها "المنضبط والمتطور" و"الأخلاقي" الذي "لا يُقهر"، ويحمي "الأرض الموعودة لليهود".
باختصار، من خلال مساعدة تل أبيب في "تشكيل وترويض" الرأي العالمي، قام حلفاء إسرائيل الغربيون بتهيئة الظروف للمجتمع الدولي لـ "قبول وتوقّع" السلوك السيئ لإسرائيل "كحامية للقيم الغربية والحضارية في المنطقة".
خلع قفازات الجنون المطلق
ثم جاءت عملية المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر، والتي شهدت خلالها إسرائيل انهيار قوة الردع لديها بالكامل خلال ساعات.
لوقف النزيف، كان على إسرائيل أن ترتقي من مرحلة الوجود المهدِّد إلى إضفاء لمسة من الجنون. عنى ذلك أن لا مزيد من الخطوط الحمر أو الأقنعة بعد الآن. كما أن الهجمات اللاذعة المستوحاة من التلمود والمتطرفة دينيًا التي تطلقها على شاشات التلفزة مجموعة واسعة من المسؤولين والمؤثرين الإسرائيليين، لا يمكن إلا أن تكون متعمّدة. ففي حين تفرض دولة الاحتلال رقابة صارمة على تفاصيل العمليات العسكرية، لا تجد سببًا لوقف سيل التصريحات العنصرية على ألسنة مسؤوليها.
بالنسبة للمتابع الغربي العادي للأخبار، فإن هذا السلوك الاسرائيلي "الجديد" مفاجئ وغريب، ويشير إلى أن الإسرائيليين غير عقلانيين بطريقة ما. أما بالنسبة للمفكّرين الاستراتيجيين، فإن هذا مجرد ارتقاء آخر في استراتيجية "الجنون المطلق" الاسرائيلية القديمة التي تهدف إلى ترويض الشعوب لتقبل السلوكيات التي تزداد سوءًا تدريجيًا وإثارة صدمتهم بأساليب مروعة تجعلهم يشعرون بالعجز عن المواجهة.
نتنياهو ومن معه ليسوا مجانين، وكل خطواتهم الوحشية ضمن استراتيجية "الجنون المطلق" مدروسة بدقة ومخطط لها ببرود. وهدفهم الرئيسي هو الوصول إلى حالة، تلخّصها بشكل رائع استراتيجيات المعلم صن تزو في القرن الرابع قبل الميلاد: "عندما يكون الخصوم غير راغبين في قتالك، فإن ذلك يكون لأنهم يعتقدون أن ذلك يتعارض مع مصالحهم، أو لأنك قد خدعتهم ليظنوا كذلك".
مواجهة الجنون المطلق: علاج بالحبة الحمراء
منذ عام 1948، قلة تصدّت فعلًا لاستراتيجية "الجنون المطلق" الإسرائيلية. التعريف التقليدي لـ"المواجهة" هو: "الوقوف في وجه المجنون ومنعه من تحقيق النصر"، ولكن حلفاء إسرائيل الأقوى بكثير ليسوا مستعدين، حتى الآن، للمخاطرة بالعلاقة معها والفوائد المرجوة منها، بينما خسر أعداء إسرائيل الإقليميون حروبهم أو عجزوا عن فرض حلول.
لكن الوضع تغير مع ظهور محور مقاومة غرب آسيا، وهو تحالف يضم دولًا وكيانات غير حكومية تشمل إيران وسوريا وحزب الله اللبناني وحماس الفلسطينية وأنصار الله اليمنية والحشد الشعبي العراقي وآخرين.
على مدى عقود، تمكّن هذا المحور بعناية شديدة من تقليص القوة التهديدية لإسرائيل، والأهم أنه طبّق مبدأ الرد بالمثل، متى ما أمكن. بعض الإنجازات البارزة لذلك:
عملية تصفية الحساب: بينما كانت إسرائيل تستهدف قرى مدنية في لبنان عام 1993، ردّ حزب الله بإطلاق صواريخ جديدة على أهداف مدنية إسرائيلية، ما أجبر إسرائيل على قبول أول اتفاق غير رسمي من نوعه لتقليص استهداف المدنيين.
عملية عناقيد الغضب: على نطاق أوسع من اشتباكات عام 1993، تم التوصّل إلى اتفاق رسمي عام 1996 ينص بوضوح على أن استهداف المدنيين هو خط أحمر في الصراع.
الانسحاب من لبنان عام 2000: بعد 18 عامًا من حرب استنزاف في لبنان، انسحبت إسرائيل من أرض عربية من دون أي شروط. في هذه المناسبة التاريخية، ألقى الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، خطبته الشهيرة والمثيرة، معلنًا أن إسرائيل "أوهن من بيت العنكبوت"، متحديًا المبادئ الأساسية لإسرائيل وقوتها العسكرية، من على حدود لبنان مع دولة الاحتلال.
حرب 2006: بعد عملية أسر نفّذتها المقاومة، جرّبت إسرائيل حظها مجددًا بشنّ حرب واسعة النطاق على لبنان، لكنها فشلت في تحقيق أهدافها. هذه المرة، انتهت الحرب التي استمرت 33 يومًا بقرار لمجلس الأمن الدولي ينص على وقف هجمات على المدنيين أو العسكريين.
عملية طوفان الأقصى: في 7 أكتوبر 2023، اخترقت حماس الجدار الأكثر تطورًا وتحصينًا الذي بنته إسرائيل للسيطرة على حدودها مع غزة. هذه المرة، تحطمت القدرة على إظهار القوة حتى داخل إسرائيل، مما اضطر تل أبيب إلى إعلان حرب لا يمكن الفوز بها، وأدى إلى إضعاف الأمن الداخلي، واستنزاف أصولها العسكرية، وتدمير اقتصادها. واضطرت إسرائيل إلى الذهاب بعيداً في استراتيجية الجنون المطلق، ما حوّلها دولة منبوذة عالميًا.
عملية الوعد الصادق: للمرة الأولى على الإطلاق، شنّت إيران هجمات عدّة بالطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية على إسرائيل، ردًا على قصف تل أبيب القنصلية الإيرانية في دمشق. خلال الضربات الانتقامية التي جرت في 13 - 14 نيسان/أبريل 2024، واجهت إيران أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية والأميركية والبريطانية والفرنسية، لكنها تمكّنت من اختراق الدفاعات وضرب أهدافها الثلاثة المحددة.
حصار اليمن لإسرائيل: ردًا على الهجوم العسكري الوحشي لإسرائيل على غزة، شنّت القوات المسلحة اليمنية حملة مستمرة لمنع عبور السفن المتجهة إلى إسرائيل أو المرتبطة عبر في الممرات المائية الآسيوية. ولأن إسرائيل تحصل على أكثر من 80 في المئة من وارداتها عبر البحر، فقد وجّهت العمليات اليمنية ضربة قاسية لاقتصادها، وعطّلت ميناء إيلات الحيوي تمامًأ، وزادت من تكاليف التأمين لإسرائيل.
باختصار، يمكن هزيمة استراتيجية "الجنون المطلق" الإسرائيلية من قبل الصديق أو العدو على حد سواء. المواجهة تكون مباشرة، بالثبات، والمقاومة. كلما قوبلت إسرائيل بالتصدي، كلما بدت أكثر جنونًا.
تقرير تابعته الاشراق للكاتبين دانيال نامور وشرمين نرواني
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء والتوصيفات المذكورة.