لعبة العقول..الحرب الإداركية التي يشنّها محور المقاومة على إسرائيل!

ishraq

الاشراق

الاشراق | متابعة.

إن الحرب الناجحة هي تلك التي تؤدّي إلى كسر العدو دون الحاجة إلى القتال. هذه إحدى الأفكار الرئيسية التي ذكرها صن تزو في كتابه "فن الحرب". من هنا تعتبر الحرب الإدراكية، والتي تعتبر فرعًا من فروع الحرب النفسية، من أهم أشكال الحروب غير العسكرية والتي تساهم، مع مجموعة أخرى من الأدوات، بتحقيق هدف كسر العدو.

لقد مارست إسرائيل هذا النوع من التلاعب الإدراكي يوم السبت الماضي، بعد حادثة مجدل شمس واتهام إسرائيل حزب الله باستهداف القرية ما أدّى إلى سقوط 12 شهيدًا. وعلى الرغم من أن شهود عيان محليين يزعمون أن الحادث نجم عن سقوط صاروخ إسرائيلي من نظام القبّة الحديدية على ملعب لكرة القدم، فإن تل أبيب اتهمت حزب الله بضرب الموقع، واستغلّت هذه المعلومات المضلّلة في حملة للتأثير على المدنيين اللبنانيين على نطاق واسع، من خلال الإعلان عن ضربات وشيكة تصعيدية ضد لبنان.

وهذا جزء لا يتجزأ من الحرب الإدراكية بين إسرائيل ومحور المقاومة في المنطقة، وهي الحرب التي تمارس منذ سنوات، والتي تميل إلى التصعيد بشكل كبير خلال أوقات الصراع.

زرع الفتنة الداخلية

ولكن تل أبيب لم تعد تهيمن على الميدان. فكل عمل، عسكري أو غير عسكري، تقوم به دول محور المقاومة في غرب آسيا ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي، يمتلك بطبيعته بعدًا إدراكيًا يؤثّر في عقل الإسرائيليين. ويتجاوز الإدراك مجرد استقبال المعلومات الحسية ليشمل معالجة وتفسير هذه المعلومات بناءً على تجارب وخبرات الفرد السابقة، ومعرفته، وتوقعاته. من هنا يكون لعملية الإدراك تأثير مباشر على تصوّرات الأفراد تجاه مسائل محدّدة وهو ما ينعكس في نهاية الطريق على القرارات التي يتّخذها كل فرد.

وبحسب ورقة صادرة عن حلف شمال الأطلسي، تكمن أهمية هذه الحرب هي أنها تستهدف الخطوة الثانية في نموذج صنع القرار الذي طوّره الاستراتيجي العسكري والعقيد في القوات الجوية الأميركية جون بويد. فوفقًا لبويد، تحدث عملية اتخاذ القرار في دورة متكرّرة من أربع خطوات: "الملاحظة، والتوجيه، واتخاذ القرار، والتصرف". وبحسب ورقة الناتو، يعتمد هذا النموذج بشكل كبير على خطوة التوجيه، والتي تشمل عملية تحليل ما تمت ملاحظته. فارتكاب خطأ في التوجيه، بغض النظر عن مدى قدرة الفاعل على الملاحظة، ومدى سرعة اتخاذ القرار، ومدى دقة التصرف، يمكن أن يعني أن الفاعل قد وقع في فخ اللعبة الخاطئة. وخطورة الحرب الإدراكية، بحسب الناتو، هي أنها تستهدف عملية التوجيه هذه بهدف إبطاء عملية اتخاذ القرار، تقليل دقّتها، أو كليهما.

ومن المهم الإشارة إلى أن الفهم المعاصر للحرب الإدراكية ينتقل من التأثير على عملية اتخاذ القرار إلى التركيز بشكل أكبر على تحقيق هدف السماح للعدو "بتدمير نفسه من الداخل" من خلال التأثير على وعي السكان. فإذا شنّت الحرب الإدراكية بنجاح فإنها تستطيع تشكيل معتقدات وسلوكيات الأفراد والجماعات لصالح الأهداف التكتيكية أو الاستراتيجية للمهاجم، أو التأثير عليها كحد أدنى. وبحدها الأقصى، فإنها تمتلك القدرة على تفتيت مجتمع بأكمله، بحيث يخسر الإرادة الجماعية لمقاومة نوايا العدو.

وقد بدأ هذا التفتّت يتكشّف بالفعل في دولة الاحتلال، حيث تعمل الاحتجاجات المطالبة بالإفراج عن أسرى الحرب على تعزيز الانقسامات السياسية العميقة بين الإسرائيليين. ومؤخرًا، بشأن الاشتباكات بين الشرطة العسكرية وقوات الاحتلال واليمين المتطرف بشأن حادثة تتعلّق باغتصاب أسرى فلسطينيين من الذكور في الاحتجاز الإسرائيلي.

الحرب الإدراكية على إسرائيل

اعتبر مقال تحت عنوان "الحرب الإدراكية الأولى" نشره معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي عام 2017 أن "الحرب الإدراكية التي تشنّها الدول والمنظمات غير الحكومية في السنوات الأخيرة طرأت على خريطة التهديدات التي تواجه إسرائيل في السنوات الأخيرة". لذلك أوصى المقال بأن "يستثمر جيش الدفاع الإسرائيلي بعناية في بناء القوة وتطوير مجموعة من القدرات في الساحة الإدراكية، جنبًا إلى جنب مع بناء القدرات العسكرية".

كما اعتبرت دراسة حديثة لمركز القدس للشؤون العامة (الإسرائيلي)، صدرت في أيار/مايو 2024، أن "الحرب الإدراكية الإيرانية أكثر خطورة من الصواريخ والطائرات بدون طيار القاتلة". ويمكن القول إن الحرب الإدراكية الحالية لمحور المقاومة على كيان العدو تهدف للتأثير على ثلاثة مجالات. المجال الأول هو ميدان الصراع الفلسطيني الإسرائيلي حيث تهدف الحرب في هذا المجال إلى تأكيد عدم قدرة الكيان على نسف القضية الفلسطينية. المجال الثاني يتعلّق بالتأثير على وعي المجتمع الإسرائيلي وثقته بدولة الاحتلال. المجال الثالث يهدف للتأثير على وعي الرأي العام العالمي، خاصة الغربي، بهدف جذب أكبر عدد من المؤيّدين للقضية الفلسطينية والتصويب على همجية ووحشية كيان العدو. والمجال الرابع هو ميدان الصراع بين كيان العدو وقوى محور المقاومة خارج فلسطين والذي يهدف إلى التأثير على وعي قادة العدو وسكان الكيان حول مخاطر الدخول في مواجهة مع هذه القوى.

أدوات الحرب الإدراكية لمحور المقاومة

خلال السنوات الماضية اعتمد محور المقاومة مبدأ الحرب الهجينة في مواجهة كيان العدو، والتي تتشكّل من مجموعة أدوات عسكرية وغير عسكرية (منها أنشطة الحرب الإدراكية)، للتأثير على وعي الداخل الإسرائيلي.

ومن الأساليب التي عمل عليها محور المقاومة ضمن أنشطة الحرب الإدراكية أن يكون حاضرًا في طرح سرديّاته للأحداث المتعلّقة بالكيان، مثل التأكيد على المسبّبات الفعلية لحرب غزّة الحالية والمرتبطة بإصرار إسرائيل على الاحتلال، وتعزيز تواجده على منصات التواصل الاجتماعي لنقل الأحداث كما يراها، والتركيز على الحديث مع الداخل الإسرائيلي من خلال البث الدائم للمشاكل التي يواجهها الكيان بمختلف اللغات، وتكثيف الإصدارات الصورية التي تؤثّر على وعي المستوطنين، مثل الفيديوهات، والكشف عن قدرات عسكرية جديدة مع مرور الوقت، والحملات الإعلامية المستمرة حول ضعف الكيان وعدم وجود مستقبل له. كما كان قادة محور المقاومة يوجّهون كلامهم باستمرار إلى الداخل الإسرائيلي بهدف التأثير على علاقتهم بدولة الاحتلال وبث عدم اليقين بأمان البقاء في الكيان.

حتى الأنشطة العسكرية كان لها بعدًا إدراكيًا مهمًا. فمسلسل الهدهد الذي جال فلسطين المحتلة في أكثر الأوقات الذي تستنفر فيه إسرائيل دفاعاتها الجوية، كانت إحدى أهدافه تأكيد مخاطر التصعيد مع لبنان في عقل قادة العدو وسكان الكيان وبث الخوف لدى الكيان من قدرات حزب الله العسكرية.

تأثير الحرب الإدراكية على الإسرائيليين

في حين وصلت قدرة محور المقاومة على الوصول إلى المعلومات وفعاليتها إلى مستويات جديدة، فإن قدرة إسرائيل على الوصول إلى المعلومات وفعاليتها في انحدار سريع.

تعتمد تل أبيب على عملية "إلقاء المعلومات" كمكّون أساسي لأدوات الحرب المعرفية ضد خصومها، والتي تنطوي على إطلاق طوفان من التحليلات والتهديدات والدعاية لنشر الروايات الإسرائيلية المصاغة بعناية. والهدف هو إما ترهيب أعدائها أو جذب الرأي العام في الدول الحليفة وتعزيزه.

في 23 تموز/يوليو 2014، قال المقدّم المتقاعد أفيتال ليبوفيتش، مؤسّس وحدة وسائل التواصل الاجتماعي في جيش الاحتلال ومدير اللجنة اليهودية الأميركية في إسرائيل آنذاك، خلال مقابلة مع CNBC "وسائل التواصل الاجتماعي هي منطقة حرب بالنسبة لنا هنا في إسرائيل، فهي وسيلة للتواصل مع مجموعة واسعة من الجماهير في جميع أنحاء العالم.. يمكننا إدارة حملاتنا الخاصة، وتحديد ما سيكون العنوان، وما هي الصور واللقطات التي سنقوم بتحميلها وهذا يمكّننا حقًا من الوصول إلى ملايين الأشخاص الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر وحيد للمعلومات".

على سبيل المثال، في بداية حرب غزّة وبعد أسبوع تقريبًا من عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر، تمت مشاهدة 30 إعلانًا تشهيريًا لحماس - نشرتها وزارة الخارجية الإسرائيلية - أكثر من 4 ملايين مرة على منصة إكس.

كانت مقاطع الفيديو والصور المدفوعة التي بدأت في الظهور في 12 تشرين أول/أكتوبر تستهدف البالغين فوق سن 25 عامًا في بروكسل وباريس وميونيخ ولاهاي. على موقع يوتيوب، أصدرت وزارة الخارجية الإسرائيلية أكثر من 75 إعلانًا مختلفًا، موجهًا إلى المشاهدين في الدول الغربية، بما في ذلك فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا.

كان هذا الهدف الإسرائيلي على وجه الخصوص تأمين دعم الرأي العام الغربي للهجوم الوحشي الذي شنّته تل أبيب على غزة، وضمان رؤية هذه الشعوب لحماس كحركة إرهابية. كانت حملة "حماس = داعش" أحد الأمثلة على ذلك.

ولكن بعد عشرة أشهر من شنّ إسرائيل لحربها على غزّة، أدّت الإبادة الجماعية التي تم بثها مباشرة عبر منصات التواصل الاجتماعي إلى تحويل التصورات العالمية في الاتجاه المعاكس تمامًا. لقد وجدت تل أبيب نفسها في موقف دفاعي، وقد تعرّضت للطعن في محكمة الرأي العام، وربما للمرة الأولى، عاجزة عن جعل تصريحاتها وتصريحاتها تلقى صدى.

حتى أن الإسرائيليين لم يعودوا يصدقون حكومتهم، ناهيك عن الجماهير العالمية التي أصابها الذهول من التنافر المعرفي الذي تعيشه إسرائيل عندما تستمر في إعلان نفسها "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم"، وكل هذا في حين تذبح النساء والأطفال الفلسطينيين بالألوان.

إخضاع العدو دون قتال

يذكر "إعلان استقلال إسرائيل" أن أحد أهم أسباب قيام دولة الاحتلال هو إيجاد دولة آمنة لليهود وجذب يهود العالم إليها. وبالتالي فإن حفاظ إسرائيل على صورة "الدولة القادرة على حماية شعبها" شرط أساسي لضمان استمراريّتها وقدرتها على تكثيف هجرة يهود العالم إليها.

إلا أن بلوغ إجمالي عدد الإسرائيليين الذين هاجروا إلى دول أخرى ويقيمون حاليا في الخارج 756 ألفًا في نهاية عام 2020 يوحي بأن حكومة الاحتلال تفشل في جذب يهود العالم إليها. والملفت أكثر هو أن 80% من الإسرائيليين الذين يعيشون حاليا خارج البلاد يقولون إنهم لا ينوون العودة إلى إسرائيل، بحسب استطلاع رأي أجرته الجامعة العبرية بمبادرة من المنظمة الصهيونية العالمية في آذار/مارس 2024. كما أشار استطلاع للقناة 13 العبرية في تموز/يوليو 2023 أن أكثر من ربع سكان إسرائيل، 28%، يفكّرون بالهجرة من إسرائيل. فما هو السبب الرئيسي؟

بحسب استطلاع أجراه معهد الديمقراطية الإسرائيلي، الذي تعقب البيانات بين حزيران/يونيو 2022 وآذار/مارس 2024، فإن 35% فقط من الإسرائيليين متفائلون بشأن مستقبل الحكم الديمقراطي في البلاد، و34% فقط متفائلون بشأن مستقبل الأمن القومي. وبما أن الأمن هو المسوّغ الأساسي لقيام "إسرائيل"، فإن تدنّي نسبة المتفائلين بشأن مستقبل الأمن القومي للبلاد يفسّر سبب إقبال عدد كبير من الإسرائيليين على الهجرة المعاكسة. ولا بد من الإشارة هنا أنه بحسب هذه الاستطلاع سُجّلت أدنى الأرقام في آذار/مارس 2023، أي قبل عملية "طوفان الأقصى" بأشهر، عندما بلغ التفاؤل بشأن مستقبل الأمن القومي 30% فقط، وكان التفاؤل بشأن مستقبل الديمقراطية أعلى قليلاً فقط، عند 32%. وبطبيعة الحال فإن إدراك سكان الكيان لحجم المخاطر على أمنهم القومي هو نتيجة وقائع وتجارب وحملات نفسية يقودها محور المقاومة خلال السنوات الماضية.

ما عزّز عدم ثقة الإسرائيليين بالكيان هو قناعتهم بأن حزب الله "ينتظر الفرصة للانقضاض على إسرائيل". وكان لحرب الإدراك التي يشنّها حزب الله على الكيان التأثير الأكبر على بناء هذه القناعة في عقل الإسرائيليين. فمثلًا، تقول إفرات إلدان شيختر، وهي مستوطنة في الجليل الشمالي، خلال مقابلة مع موقع BBC: "إن أكثر ما نخشاه هو أن حزب الله ينتظر هناك على الحدود ليأتي ويغزو إسرائيل. لهذا لا أستطيع أن أنام بسلام".

تقرير تابعته الاشراق للكاتب محمد حسن سويدان من موقع كرادل عربي 

لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء والتوصيفات المذكورة.

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP